حين أتى الصغير على الروايات البوليسية والتاريخية التي في مكتبة خالته وجدته، كان عليه أن يجد مصدرا آخر. في عصر لم يكن فيه التلفزيون أمرا شائعا، وقبل أن تخطر فكرة الإنترنت والهاتف الذكي ونتفليكس على بال مخلوق، كان الكتاب هو الطريقة الوحيدة لتزجية الوقت في ليالي الشتاء الطويلة أو في فترات القيلولة في أيام الصيف القائظة.
وهذا ما جعل حمص مدينة قارئة. وهو أيضا ما جعل المكتبات الكبرى في حمص مقصدا لمثقّفي المدينة ومتعلِّميها. من بين أهمّها كانت المكتبة العمومية بجانب المركز الثقافي القديم في وسط المدينة لصاحبها عبد الوهاب الحسامي، ومكتبة الجمهورية في شارع باب هود، ومكتبة القناعة في شارع أبو العوف لصاحبها محي الدين الأيوبي، ثم اشتراها فوزي قصيراوي ومكتبة الزهراء لصاحبها بهاء الدين دياب، والمكتبة الوطنية ومكتبة عبارة، في سوق الحسبة.
ولكن أهم المكتبات جميعها كانت مكتبة عبد السلام السباعي في الشارع الرئيسي بحمص. يصل شارع السرايا بين ساحتي الساعة القديمة والساعة الجديدة، ويتوسّط المدينةَ فيقسّمها شمالا وجنوبا. اسمه الرسمي شارع شكري القوتلي، ولكن – كمعظم الشوارع في المدينة – أعطاه الحماصنة اسما آخر: السرايا. في هذا الشارع كانت أفخر فنادق حمص القديمة، قصر رغدان، وأفخر بائع حلويات، الناطور، وأهم المحال التجارية، وبينها كانت تتألّق مكتبة السباعي، ليس بواجهتها ولا بأنوارها، ولكن بكوكبة المثقفين الذين كانوا يتردّدون عليها، فتغدو لهم ملاذا ومكانا للقاء وتبادل المعرفة والأخبار. وحين كان الصغير يمرّ قبالة المكتبة كان يرى، من خلال زجاج الواجهة الذي تكاثف عليه الغبار، في كلّ مرة شخصا ممن كان يلتقيهم في قهوة الفريال مساء مع الوالد. أسست المكتبة سنة 1925، وكان صاحبها عبد السلام صديقا لكلّ مثقفي حمص، وكان مثقفا مشهودا له، وإن لم يحمل شهادة عليا هو نفسه.
على أن كلّ هذه المكتبات لم تكن تعني للصغير شيئا، فهي جميعا تبيع الكتب الجديدة، بميزانية تفوق ميزانيته. ولذلك، كانت هدفه، حين يريد قراءة رواية جديدة، أحدَ الأخوين – محمد وممدوح – اللذَين كانا يفترشان بمكتبتهما سور حديقة الدبابير، وسط المدينة.
لا أحد يعرف على وجه الدقّة لماذا اختار الحماصنة اسم "الدبابير" لأجمل حدائقهم"، ولا يتذكّر الصبي أنه رأى دبّورا واحدا في الحديقة التي كان غالبا ما كان يمرّ فيها أو يحاذي سورها الحجري الجميل، كلّما كان في طريقه إلى قلب المدينة. ولكن إحدى الروايات تقول إن الاسم جاء لأن روادها كانوا لا يريدون أن يدفعوا ثمن المشروب في حديقة مقهى الروضة المقابل لها، فكانوا يجلسون في الحديقة العامّة على الطرف الآخر، مجانا، فسمّاها أهل المدينة حديقة الدبابير، لأن الدبّور يعيش على حساب النحل. في بداية السبعينات، سيأتي إلى المدينة محافظ "عصري" فيرتكب جريمة بحق الحديقة، حين هدم سورها وغير أرضها التي كانت من حصى وتراب إلى بلاط سخيف، فغيّر وسط المدينة إلى الأبد، وأعلن بذلك بداية مرحلة تشويه المدينة التي امتدت بعد ذلك عقودا.
على سور الدبابير، كان محمّد يضع كتبه المستعملة، يرتّبها أناقة، ويعلق بعضها على القضبان الحديدية التي تعلو السور الحجري المنخفض، ثمّ يمضي سحابة النهار مطالعا في كتاب من تلك الكتب. وكان لمحمد فراسة في الزبائن، وتراه ينظر إلى زبونه برهة من الوقت، ثمّ يمضي إلى كدسة من الكتب، فيمد يده ويلتقط واحدا منها، قد يكون في أسفل الكدسة، ويعطيه للزبون، وغالبا ما يكون الكتاب يهتم به فعلا. عقد الصبي مع محمد اتفاقية، فدفع له أول مرة 35 قرشا ثمنا لرواية من روايات أرسين لوبين، ثم صار يغيرها مرة كل يوم أو يومين فيدفع عشرة قروش لقاء التبديل. أما كلفة تبديل مجلة سوبرمان فكانت خمسة قروش فقط.
وكان ممدوح شقيقه، يفترش بكتبه الطرف الآخر من الحديقة، وكان على عكس أخيه يحب الحديث ويتحاور مع زبائنه، ويعرف عنهم قصصهم وحكاياتهم وأسرارهم. وكان الصبي يقضي أحيانا ساعات وهو يتفحص الكتب المعروضة على البسطة أو يتحدث مع ممدوح، ويسعده أن الرجل كان يحدثه حديث الندّ للندّ. وحين سيكبر الصغير قليلا، ويترك روايات أرسين لوبين وألكسندر دوماس، سيقع في غرام نوع أدبي جديد: المسرح. في زاوية بسطة محمد، سيجد كتابا صغيرا بجلدة حمراء لا صورة عليها، مكتوب عليه "لعبة الحب والمصادفة"، فلفت العنوان انتباهه، واستأجر المسرحية. في البيت سرعان ما غاص في أشخاص المسرحية: سيلفيا الشابة النبيلة العنيدة الجميلة التي تمت خطبتها لشاب نبيل لم يسبق لها اللقاء به وهو دورانت ابن أحد النبلاء من أصدقاء والدها في مدينة أخرى، وخادمتها ليزيت وخادم دورانت أرلكاين. يرسل والد دورانت رسالة إلى والد سيلفيا يبلغه فيها برغبة دورانت زيارتهم ليتعرف بخطيبته. تستأذن سيلفيا أباها بأن تتنكر كخادمة لتتعرف على دورانت عن كثب وذلك بتبديل الأدوار بينها وبين وصيفتها ليزيت. يوافق أبوها على اقتراحها وذلك لأنه وبمحض المصادفة كان والد دورانت قد أخبره في رسالته بفعل دورانت نفس ما اقترحته سيلفيا وأنه سيقدم عليهم مبدلا بين شخصيته وشخصية خادمه. يصل دورانت قصر أرجون متنكرا كخادم باسم بورغينيون وخادمه أرلكاين مجسدا لشخصية دورانت. تتوالى أحداث المسرحية ويقع كل من سيلفيا ودورانت في حب بعضهما دون أن يعرف كل منهما بشخصية الآخر الحقيقية. أنهى الفتى المسرحية في ظهيرة واحدة، ووقع في غرام شيء اسمه المسرح.
سيبدأ الفتى باستئجار مسرحية كلّ يوم، ومن ثمّ حين سيتوفر لديه بعض النقود سيشتريها، حتى أسّس بعد سنوات مكتبة مسرحية غنية. وسيتعرف عن طريق محمد وممدوح على أوسكار وايلد في "أهمية أن تكون جادّا"، وجون ميلينغتون سينغ في "فتى الغرب المدلّل"، ويوجين أونيل في "القرد كثيف الشعر"، وأيضا إليخاندرو كاسنونا وفريدريش دورنمات وبريخت، وغيرهم كثير، وكلهم في سلسلة مصرية رائعة كان اسمها روائع المسرح العالمي، يشرف عليها الناقد المسرحي الأبرز في مصر الستينات علي الراعي.
ولكن عملا واحدا سوف يترك لدى الفتى المراهق أثرا لن ينساه مطلقا. كان عملا مسرحيا لجان بول سارتر، اسمه "جلسة سرّية" – سيعرف فيما بعد أن اسمها الحقيقي البواب المصدة. ستصيب المسرحية الفتى برعشة جبّارة حين يتابع غارسان وهو يدخل بعد وفاته إلى الجحيم. يتقدمه الخادم بهدوء في ممرات لا حصر لها ويفتح له باب إحدى الغرف ليدخل غارسان الخائف الذي ينظر حوله في ترقب وفزع، وحين يراها خالية، يسأل: حسنا. أين الكلابات وأدوات التعذيب؟
الخادم: نعم؟ عذراً سيدي!!
غارسان: ألسنا في الجحيم؟!
الخادم: عذراً سيدي يبدو أنك تقرأ قصصا خيالية كثيرة فلا أحد جاء هنا ورجع ثانية ليحكي ما جرى.
يقابل غارسان في الغرفة ستيل التي قتلت طفلتها، واينز المتهمة بالشذوذ، ويدور بينهم حوار عادي جدا، كأي حوار يدور في قطار، ونكتشف استحالة التوافق بين الثلاثة، وخاصة أن كلا منهم يعرف ماضي الآخر ويعذبه بما اتخذه من قرارات خاطئة، وأنهم لا يستطيعون الحياة مع بعضهم أبداً، وأنهم محرومون من رؤية أنفسهم، لأنه ببساطة لا توجد مرآة في الجحيم، ليدرك غارسان الحقيقة في نهاية المسرحية، فيهتف:" الجحيم الآخرون." ستدور هذه الفكرة في خلد الصبي كثيرا، وكلّما أبعدها ستعود إليه، بإلحاح أكثر، وسوف يداورها ويحاول استيعابها تدريجيا، ولكن فقط حين سيعتقل ويحشر مع عشرات غيره في مكان واحد سيدرك المعنى الحقيقي لفكرة الآخر باعتباره الجحيم.