من بين ندماء الأب في مقهى الفريال أيضا كان رفيق فاخوري ومحي الدين درويش، الذَين يجمعهما الشعر وحب النحو واللغة ويفرّق بينهما كلّ ما عدا ذلك. كان رفيق رجلا أنيقا، نظيف الملبس والسلوك، شديد التهذيب، ينتقي كلماته بتأنّ ويحترم محدّثيه، كبارَهم وصغارهم، ويتحدّث بروية وصت منخفض. درس الحقوق ولم يعمل بها، بل فضّل تدريس اللغة العربية في "تجهيز حمص" وكتابة الشعر والمقالات. وكان المرجع الأول في اللغة العربية في حمص، وكم شهد مقهى الفريال سجالات لغوية، غالبا ما يكون الفصل فيها لفاخوري.
وكان، إلى الشعر واللغة، ذا ثقافة عالية، يتقن الفرنسية، ويقرأ الأدب العالمي والفلسفة. ولكن غرامه الأكبر كان في الموسيقا العربية والغناء. ولم يكن يحبّ الأصوات الجديدة، فوقف عند تجديد عبد الوهاب دون أن يتجاوزه، وأغرم بسيد درويش وسلامة حجازي، ولكن ولعه الأكبر كان بأسطورة الغناء في حمص نجيب زين الدين، الذي لا يمكن لأحد على ما يبدو أن يعارض تفوقه الجبار في روعة الصوت وقوته. وسيصدّم الصغير حين يعرف أن هذا الرجل الأنيق الوسيم الذي كان يباسطه في الحديث حين يأتي ليجلس إلى جوار أبيه في القهوة، لم يكن يحب فيروز، بل إنه هجا الرحابنة في إحدى رباعياته، وإن كان سيغيّر موقفه في سنوات حياته الأخيرة.
وسيشرّف الفاخوري الصبيَّ وقد غدا فتى في الثانوية، بتدقيق بروفات كتابيه "همزات شيطان" وهو ديوان احتوى رباعياته النقدية في الحياة والمجتمع والفن والأدب، وكتابه الأنيق الجميل "معجم شوارد النحو"، الذي جمع فيه غرائب النحو وشوارد الإعراب في اللغة العربية. والد الصغير هو من سينشر الكتابين في مطبعته، ولن تسع الدنيا الصغير لفرحه وفخره في أن الفاخوري العظيم نفسه قد اختاره لتدقيق البروفات. ولم يكن يعلم أن الشاعر كان يعيد التدقيق من بعده بنفسه، لأنه لم يكن يسمح بغلطة واحدة في الكتاب.
على النقيض من الفاخوري، كان محي الدين درويش فوضويا، أشعث الشعر، يلبس قميصه أسبوعا دون أن يبدّله، ويربط ربطة عنق على عجل وكيفما اتفق ولا يبالي إن كان قد أسقط عليها في سهرة الأمس نقطة زيت. وبينما يرشف رفيق فاخوري العرق بأناة وأناقة، كان الدرويش يغب العرق غبّا، ويطلق ضحكات طويلة، ويمازح رفاقه أو يناكدهم أحيانا، ويتحدّث بصوت صاخب مرتفع. وعلى عكس الفاخوري، لم يتابع الدرويش دراسته بعد "السيرتفيكا" وهي الشهادة الابتدائية، ولكنه كان يتردّد إلى المساجد، حتى أتقن اللغة وعلومها وآدابها إتقانا لا مزيد عليه. وكان والد الصغير يفضّل صحبة الفاخوري، ولكنه يحبّ الدرويش ويستمتع بشعره الذي كان أكثر بساطة وسلاسة من شعر الفاخوري المركّب وزنا ومضمونا وقافية. وكما نشر والد الصبي كتابين للفاخوري نشر لدرويش كتابا هو "تحقيق ديوان ديك الجن". ولم يكن الدرويش يأبه للموسيقا والغناء والسياسة، على عكس الفاخوري، وكان غالبا ما يحاول تغيير الحديث حين يتطرق إلى الموسيقا أو يهجر المجلس. ولكنه حين رأى الفاخوري ينشر كتابه "معجم شوارد النحو"، ضرب هو ضربته الكبرى، فنشر كتاب "إعراب القرآن وبيانه"، الذي أعرب في كلمات القرآن كلمة كلمة، وأمضى في سبيل ذلك عشرين سنة.
ومن ندماء الأب أيضا الدكتور نسيب الجندي طبيب الأسنان، ولعلّه أول طبيب أسنان في المدينة، ولد في مطالع القرن العشرين، وكان حاضر النكتة سريع البديهة، يشيع حوله لابتسامة
إلى مقهى الفريال، كان الأب يذهب في كلّ ليلة، بعد أن عاد من منفاه في بيروت، وقد أغلق حزب البعث جريدته، وصار يعلّم اللغة العربية في مدارس حمص
والحبور حيثما حلّ؛ ثمّ عبد الكريم شاهين، الرجل الهادئ المهذّب، الذي كان يبتسم ابتسامة صغيرة، حين كان الجمع يضجّ بالضحك لنكتة أطلقها الدرويش أو نسيب الجندي؛ ومن بينهم أيضا المحاميان العريقان نعيم السبيتي وخالد كالو. كان السبيتي فائق الطول يربو على المترين، في حين كان كالة شديد القصير وذا حدبة في ظهره، ولكنه كان أشهر محامي حمص قاطبة. ويروي الحماصنة نكاتا كثيرة عن الرجلين؛ ثمّ رياض كلاليب، الرجل الوسيم الهادئ الذي كان ينتحي بالصغير أحيانا فيحكي له قصّة أو يطلب منه أن يحلّ لغزا.
إلى مقهى الفريال، كان الأب يذهب في كلّ ليلة، بعد أن عاد من منفاه في بيروت، وقد أغلق حزب البعث جريدته، وصار يعلّم اللغة العربية في مدارس حمص من خارج الملاك، بأجر أربع ليرات سورية للحصّة الواحدة، وكان يرهق نفسه أحيانا بثماني حصص في اليوم ستة أيام في الأسبوع، ليستطيع أن يؤمّن الخبز والتعليم لأولاده. وكان الصغير في كثير من الأحيان يلحق بالأب إذا ما انتهى من كتابة وظائفه، فيخرج من حارته، ويحاذي السرايا حتى يبلغ منتهاها، فينعطف يمينا إلى القهوة، فيدخل ويجلس بجوار الأب، ويستمع إلى نقاشاتهم في السياسة واللغة والأدب والموسيقا. ثم يتابعهم وهم يلعبون الورق. كانت لعبتهم المفضّلة "زيرو" وهي ضرْب من ضروب الكونكان، سوى أن اللاعب لا ينزل أوراقه إلا إذا استطاع إنزالها كلها، ويكسب حينها من كلّ لاعب آخر فرنكا (خمسة قروش). وكان الأب غالبا ما يكسب في اللعب، فيبتهج الصغير لمكسب والده، ويبتهج أكثر لأن الأب سيعطيه على الأرجح خمسة قروش يأخذها الولد ويخرج قبالة المقهى فيشتري بعضا من لبّ "البطيخ الأحمر" المحمّص، ثم يعود إلى القهوة، فينتحي جانبا ويجلس إلى طاولة بمفرده، يقزقز اللبّ.
وفي يوم مشهود، أحضر صاحب المقهى، روحي الفيصل، وكان هو أيضا صحفيا متقاعدا كغيره من الروّاد، جهاز تلفزيون صغير فوضعه في زاوية المقهى عند المدخل. ولم يكن في بيت الصبي تلفزيون، فكان يذهب في الأمسيات، يجالس أباه وصحبه بضع دقائق قبل أن ينفرد بنفسه أمام التلفزيون، فإذا كان محظوظا، لحق بأفلام الكرتون واستمتع بباباي وأوليف أويل الجميلة وبلوتو الشرّير، وإن كان أقلّ حظا تابع برنامج مع الفلاحين. فإذا ملّ عاد إلى طاولة الكبار، يتابع لعب الورق، وينظر إلى والده وهو يدخّن سجائر "بردى 1"، ويبتسم إذا ما سحب ورقة الجوكر وأنهى اللعبة، فانهالت عليه الفرنكات من بقية اللاعبين. كان الأب قد غيّر دخانه بعد انقلاب البعث لتوفير بعض المال لأسرته، فصار يدخن نوعين من السجائر، نوعٍ رديء ونوع أكثر رداءة. في المقهى كان يدخّن سجائر بردى، وكان سعر العلبة خمسة وخمسين قرشا، أما حين يعود إلى البيت ويصبّ لنفسه كأس العرق ويضع مازته الوحيدة – نصف أوقية من لبن الغنم – فكان وقتها يُخرج علبة من دخان "الريف" الرخيص، وكان سعر العلبة عشرين قرشا فقط.
ولن ينسى الصبي ما عاش يومَ أعطاه الأب ليرة سورية وطلب منه أن يشتري له علبة من الدخان في ليلة شتوية قارسة البرد، فنزل إلى دكانة "أبو بدر" ليشتري السجائر، ولكن الأم نادته وطلبت منه أن ينزل كيس القمامة معه. كان يمسك بالليرة بيد وكيسَ القمامة بيد، وقد رمى القمامة في زاوية ورشة أبو كرمو لبخّ الديكو، وذهب إلى أبو بدر ليشتري الدخان، وليكتشف أن الليرة ليست معه. أدرك الفاجعة. لا بدّ أنه رمى الليرة مع كيس القمامة في الكومة الكبيرة. عاد إلى الكومة الهائلة مرعوبا، وراح يبحث عن الليرة المعدنية في العتمة، ولكن جهوده كلّها راحت سدى، واتّسخت ملابسه، فابتأس لضياع الليرة وابتأس لأن أمه ستوبّخه لقذارة ملابسه. عاد إلى بيته محزونا وأخبر أباه بالكارثة. صمت الأب لحظة، ثمّ قال: "لا بأس!"، ورسم شبحَ ابتسامة على شفتيه، ليُطَمْئن الصغير، ولكن الحزن لم يفارق الصغير مطلقا، ولا يزال قلبه ينقبض حتى الساعة حين يتذكّر كيف أمضى الأب ليلته وهو يحتسي العرق بدون تدخين، لأن ميزانيته لم تكن تسمح له بشراء علبة دخان أخرى.
إلى جانب قهوة الفريال كانت حمص مليئة بالمقاهي، فقبالة الفريال كانت الفرح، وهي قهوة شعبية، ستصبح قهوة الصبي المفضّلة حين يكبر، وفي الطرف الآخر من ساحة الساعة، التي ستشهد في 2011 جريمة النظام الجماعية الأولى أثناء الانتفاضة، تجثم قهوة الجزار، فإذا سرتَ في شارع الدبلان حتى غايته، واجهتك قهوة الدبلان. فإذا عدت أدراجك إلى قلب المدينة، فستمرّ بجوار مقهى الروضة، ولعلّها أجمل قهوة في سوريا، فقسمها الشتوي لا يزال يحتفظ بعمارة قديمة كانت في الأربعينات مسرحا كدار الأوبرا، أما قسمها الصيفي فمفروش بالرمل الأحمر الناعم، وتتناثر الطاولات تحت أعداد لا تحصى من الأشجار، تجعل صيف حمص القائظ رطبا ولدنا. ثم، هنالك قهوة الفردوس في ساحة الساعة القديمة، وهي غالبا قهوة العمال الموسميين وسائقي السيارات العامة. فإذا تركتها وانحرفت يسارا فستسير إلى قهة جورة الشياح. يمكنك أن تحصي عشرة مقاهٍ في مساحة لا تزيد عن كيلومتر مربع واحد.