المرأة الرابعة التي حدّدت مسار الصبي في طفولته وشبابه كانت جدّته أم يوسف. كلّ الجدّات فاتنات، ولكن لكلّ جدّة طريقتها الخاصّة في الفتنة. كانت أم يوسف امرأة قصيرة ممتلئة، بيضاء الوجه، كانت تعتقد بقوّة أن جمال المرأة في صحّتها، فكانت لا تجهد نفسها في العمل وتأكل طعاما دسما كي تحافظ على امتلاء وجهها.
في صباها وفّر عليها زوجها، جدّ الصبي، عناء العمل فألحق بها خادمة تقوم بعمل البيت. كان فخري شلب الشام إقطاعيا صغيرا، يملك أراضي ضيعة صغيرة شمال شرق حمص ويؤجرها للمزارعين، ولكنه لم ينتظر عبد الناصر لكي يصادر أراضيه، فقد توفي مريضا بالسرطان قبل ولادة الصغير بسنة، وتولّى أولاده بيع الأرض قطعة إثر الأخرى، والجدّة ترى ذلك بعينيها ولا تستطيع فعل شيء.
لم يرَ الصغيرُ جدّه أبدا، فقد رحل قبل أن يولد. ولكن أمّ يوسف كانت تحدّثه عنه أحيانا. كان رجلا وسيما، متين البنية، أبيض البشرة، محمرّها، بشاربين ضخمين، مولعا بالعرق والنساء والطرب. وقد أحاط نفسه بأصدقاء يشبهونه. وكان يلبس الملابس العربية، فيرتدي الدرّاعة الحمصية، ويعتمر حطّة وعقالا على رأسه، ولا يأتي إلى البيت إلا لماما، وحين يأتي على حصانه، كان يجالس زوجته وأبناءه ساعة من الزمن، قبل أن يتركهم مجددا عائدا إلى الأرض.
ولم تكن علاقته مع الله على ما يرام، ففي مرّة، أفاقت جدّة الصبي على جلبة وقت صلاة الفجر، وخرجت من غرفتها لتجد زوجها وقد عاد لتوّه من سهرته، وهو يصوّب بندقيته صوب مؤذن الحارة. رمت الجدّة بنفسها وانتزعت البندقية من يده قبل أن تنطلق منها الرصاصة: وصاح الجد:
"العمى بعيونه على هالجعير!" ثمّ دخل غرفته ونام. كانت مساجد المدينة في تلك الأيام لا تزال صغيرة وحميمية وأليفة، وكان المؤذن يصعد درجات مئذنته في كلّ مرة يدعو فيها للصلاة.
بعد وفاة الجدّ، سيبيع الأولاد بيت العائلة الذي كان واحدا من أجمل بيوت حمص القديمة، وينتقلون إلى بيتٍ عربي أصغر في كرم الشامي على طريق دمشق. ستنشأ بين الصغير وبيت الجدّة علاقة حب قوية. كان في أغلب الأمسيات يتمشّى مع أمه إلى بيت الجدّة لزيارتها. وفي أمسيات الصيف يترك أمّه في البيت ويخرج هو ليلعب مع أصدقاء له، تعرّف عليهم، في حارة جدّته. أما في أمسيات الشتاء، فكان يجلس مع أمه، وقد تكون خالته أيضا هناك، فيستمع لأحاديث النساء عن الرجال والجارات والأقارب. وقد تجود عليه الجدّة بواحدة من حكاياتها الغريبة عن الملوك والأميرات والعفاريت. بعد عقود كثيرة مرّت على الطفل الذي كبر، ستظلّ تلك الحكايات حيّة في خياله، وسيرويها لابنته، ولكنه حين يقارن بين سرده المملّ الرتيب وسرد جدّته الملوّن، المليء بالحركة والحياة والصور، كان يشعر بخجل من نفسه، ويترحّم على المرأة الفاتنة التي كانت تلوّن حياة العائلة بأكملها. أجمل الحكايات كانت حكاية خنفسة استأذن أّمّها أن تجلس على باب بيتها، فمرّ عليها الجمل والحمار والكلب يطلبون يدها، فتدخل وتسأل أمه رأيها، فتنصحها ألا تقبل، إلى أن يمرّ الحرذون فيخطبها وتقبل. تسافر معه، وفي بلدة نائية تجلس على النهر لتغسل ثيابها، وتقع في النهر، فتستغيث بفارس مرّ قربها.
ولكن الجدّة كانت تحتفظ بحكايات أخرى لقوم آخرين. وبمعايير ذلك الزمن، كانت الجدّة امرأة مثقّفة، فإلى جانب القران، كانت تقرأ كتبا وروايات، وتروي ما تقرأه على صاحباتها وأولادها. وكانت تحتفظ بكتاب غريب تسميه الكتاب الأبيض، لأنها غلّفته بورق أبيض، ولم يكن الغلاف الأصلي للكتاب موجودا. وكانت في جلساتها تروي قصصا من التاريخ وأشعارا وأحاديث منسوبة للنبي، فإذا سألها الصغير من أين لها ذلك، قالت "من الكتاب الأبيض"، ثمّ تردف بحماس:
"فيه كلّ شي يا ستي."
وكانت الجدّة تعير كتبها ورواياتها، ولكنها لم تكن ابدأ تعير الكتاب الأبيض. ومع ذلك، كان يمكن للصبي أن يقرأه وهو في زيارتها، فكان يفتحه ويحاول أن يقرأ فيه، ولكنه سرعان ما يملّ ولا يجد أبدا تلك الأشعار والحكايات التي كانت ترويها لنا. وسيعرف الصغير أن الجدّة كانت تسكب في الحكاية من روحها فتبدو أكثر إمتاعا وتشويقا. وحين سيكبر الصغير، سيبحث عن عنوان الكتاب ومؤلّفه، وسيجد أنه كتاب "المستطرف من كلّ فنّ مستظرف" لبهاء الدين الأبهيشي.
وكانت الجدّة تحب الحلويات، وحين لم تكن تجد في بيتها بعضها، كانت تمزج الخبز والماء والسكر وتضع فوقه السمن العربي، ثمّ تضعه على النار، وتسميه "حرّاق أصبعه"، وسيعرف الصغير لاحقا أن الحرّاق أصبعه أكلة مختلفة تماما، فيها عدس وعجين وبقدونس. وكانت تحبّ الأدوية والمسكنات. وكان لها ولع خاص بالأسبرو، التي كانت تعتقد أنه دواء لكلّ الأوجاع، وحين كان أولادها يحضرون لها أسبرين بدلا عنه، كانت ترفض بإصرار. وكانت تردّد إن الأسبرين يجعلك تجلس إذا كنت نائما، أما الأسبرو فيجعلك تنهض وتجري. ومع ذلك لم يرَها الصغير تجري أبدا، بل نادرا ما رآها تمشي. كانت تحكم جلستها في غرفتها التي كانت في المطبخ، قاطع صغير كانت تستخدمه للجلوس والنوم، وبجانبه قاطع آخر وقبالته كنبة قديمة متهالكة. فوق قاطعها شباك راجع بإفريز عريض كانت تضع عليه كلّ ما تحتاج إليه، الماء والكتب ونظارات القراءة والمصحف وحبات الأسبرو، قبل أن تكتشف الفاليوم. فتنت الجدّة بالفاليوم، هذه الحبة الصغيرة التي تجعلها تسترخي وتغرب في نوم عميق لا تفيق منه إلا صباح اليوم التالي.
إضافة إلى غرفة الجدّة، كان في البيت ثلاث غرف أخرى، وأرض ديار فيها حوض مستطيل. ورغم تكاسل الجدّة، كان عليها أن تعتني بنباتاتها التي كانت تتباهى بها. وبين دور أخواتها، كانت حديقتها الأجمل والأنضر والأفضل تنسيقا.
وكانت للجدّة علاقة خاصّة مع الله. دخل الصبي يوما عليها، فوجدها تبكي بحرقة، والمصحف بين يديها. وحين سألها لمّ تبكي، أرته سورة الضحى التي كانت تقرأها: "المسكين كان يعتقد أن الله تخلّى عنه. الله لا يتخلّى عن أحد." كانت تشير بكلمة "المسكين" إلى النبي. في سنواته المبكّرة، حفظ الصبي آيات وسورا من القرآن. ولسبب ما كان يحب سورة البقرة، وقد حفظ مبكّرا بعض آياتها، وأحبّ بشكل خاص الآيتين الأخيرتين فيها، وحين تلاهما على جدّته بكت فرحا به، وكانت تطلب منه أن يتلوهما على صاحباتها. وكان يفعل بفخر جلي.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
على أن علاقة الجدّة مع الله كان فيها شيء من الندّية فهي لم تكن تصلّي إلا نادرا، ولم تكن تصوم، لأنها كان يجب أن تأكل وجبات صغيرة متتالية. وكانت تفلسف ذلك أحيانا، وقالت للصغير مرّة إن الله ليس بحاجة إلى أن نجوع ونركع، فهو أسمى من ذلك بكثير. وكانت ترتدي ما تلبسه نساء سوريا في مطلع القرن الفائت، فتغطي وجهها بمنديل إذا خرجت إلى الشارع، ولكنها حين يأتي أبناؤها بأصدقائهم، تقبّلهم كما تقبل أبناءها، وهي مدركة أن الله يستطيع أن يميز بين قبلة وقبلة.
ورغم أن الصغير لم يسمعها أبدا تسيء إلى أحد من الناس، ولم يعرف أنها كانت تكره أيا منهم، إلا أنها كانت تحبّ النميمة أحيانا. وحين كانت تجلس على دكّتها وتبدأ بصنع القهوة لصاحباتها، كان الصغير يدرك أن حفلة صغيرة من النميمة سوف تبدأ الآن. وكان الصبي يحب تلك الحفلات الصغيرة البريئة، فيلبد بقرب النساء ويصغي لحكاياتهن عن فلانة وفلانة. وحين سيكبر، سيحتفظ الصغير ببعض الرغبة في الاستماع إلى أسرار الآخرين، ومعرفة حكاياتهم، وستكون إحدى هواياته تأمل شبابيك البنيات متعدّدة الطوابق والشقق ومحاولة تخيّل الحكايات التي تجري وراءها. الآن.
أكثر ما سيحزن الصغير أن يرى بيت الجدّة يهدم لتقوم مكانه بناية قبيحة، بست شقق، فتجبر الجدّة على سكن إحداها مع ابنها الصغير وزوجته وأولاده، وفيها ستمضي آخر أيامها، وقد فقدت عيناها ذلك الألق الجميل، وفقدت شهيتها وحبها للحلويات، ومع وقف استيراد الأسبرو وفقدانه من الأسواق، بسبب تصنيع دواء محلي بدلا منه، ستصبح حياتها أكثر قتامة، وحين سيأتي الموت لن تكون شديدة الأسى لاستقباله.