استأذنت صديقة عزيزة بأن أنقل محادثتها الأخيرة مع والدتها، التي ما زالت تقيم في دمشق، ورفضت محاولات بناتها للخروج، واللحاق بهن إلى منافيهن الجديدة، كانت المحادثة مشحونة بالألم واليأس إلى درجة أنها انتهت بأمنية وحيدة أطلقتها السيدة السبعينية، “نتمنى نيزكاً”...
الأوضاع المأساوية التي يعيشها السوريون، تحت سلطة نظام دمشق، نعجز حقاً عن تصورها، فأرقام سعر الصرف التي نراقبها، بشكل يومي، هي ليست مجرد أرقام، لكنها حياة ملايين البشر، العاجزين تماماً عن البقاء على قيد الحياة، في ظل الظروف المعاشية المهينة التي يعيشونها، فلم يعد القول إن الكهرباء صارت نادرة، أو إن المحروقات صارت حلماً فقط ما يؤرق السوريين، بل إن كيفية الحصول على الخبز من دون إهانات، وطوابير يعد تحدياً وجودياً، ولعل الكثيرين شاهدوا دموع ذلك السوري وهو يتحدث لإحدى وسائل الإعلام بقهر غير مسبوق، عن حلم الطعام، تقول والدة الصديقة، وهي موظفة متقاعدة، إنها باتت تشعر بالإهانة حين تقبض راتبها التقاعدي، فسنوات عمرها التي أفنتها في العمل في القطاع العام، لا تؤمن لها أبسط تفاصيل حياتها، الطعام مثلاً، ولولا ما ترسله لها بناتها من تحويلات، لوجدت نفسها تمد يدها للناس، لتتسول، أي قهر ذاك، ودائماً الكلام على لسان السيدة، الراتب هو عبارة عن كمية كبيرة من الأوراق اللامعة التي لا قيمة لها، نقول الحمد لله أن حالنا أفضل من غيرنا، لكن هذا الكلام مؤلم أكثر، فكيف نستطيع أن نمضغ طعامنا وغيرنا لا يجد قوت عياله!!! نحن نموت في اليوم الواحد ألف مرة، فلماذا لا يهبط ذلك النيزك، وينهي هذه الحياة؟
لم يعد مستغرباً أبداً أن يعثر عامل التنظيفات على رضيع في حاوية القمامة، يحدث هذا يومياً، لدرجة أن وسائل الإعلام لم تعد تكترث بنقل مثل هذه الأخبار
أتابع، شأني شأن الكثيرين، انهيار العملة المحلية السورية، لكن ذلك الانهيار الذي قد يشكل خبراً في نشرات الأخبار، أو يحتمل تعليقاً من خبير اقتصادي، قد يتضمن مقترحات خيالية للحل، هو أبعد من ذلك بكثير، فهو يخفي خلفه ملايين الجوعى والمحتاجين، الذين لا تفيدهم شيئاً أي تنظيرات، ولا أي اقتراحات، فالواقع مخيف، هكذا حرفياً، وليس مستغرباً أن يقدم أب أو أم على التخلي عن أبنائهما لأنهما، ببساطة، لم يعودا قادرين على إطعامهم، ولهذا فلم يعد مستغرباً أبداً أن يعثر عامل التنظيفات على رضيع في حاوية القمامة، يحدث هذا يومياً، لدرجة أن وسائل الإعلام لم تعد تكترث بنقل مثل هذه الأخبار لأنها صارت أخبارا مكررة، أو لأن أوامر سيادية منعت نشرها، فسوريا، وكما يعلم الجميع، بخير، والأزمة انتهت، كما تبشر بذلك بثينة شعبان المستشارة السياسية لرأس النظام، وهي تطل على الجمهور، وهي تتمتع بصحة جيدة، وقد أجرت على ما يبدو عمليات تجميل لتحافظ على منظرها الشاب، لتبارك لهم صمودهم، وانتصارهم على المؤامرة الكونية.
في التفاصيل أيضاً، أن تقرر الحكومة زيادة العطلة الأسبوعية يوماً، وأن تتوقف منافسات الدوري المحلي لكرة القدم، وهذا كله، للتقليل من استهلاك المحروقات، في حين _وهذا أمر لا يمكن مناقشته_ تواصل أساطيل السيارات التي يمتلكها المسؤولون وأبناؤهم التهام الطرقات، وتضيء المطاعم والفنادق الفاخرة أضواءها للسهرات التي يتم إنفاق ملايين الدولارات فيها، وكي لا يبدو الأمر وكأنه حسد، فإن أولئك المسؤولين مطلوب منهم تحديداً أن يجدوا حلولاً لذلك الخراب الذي يعيشه مواطنوهم.
وفي التفاصيل أيضاً، لا يكلف رأس النظام نفسه عناء مخاطبة مواطنيه، أقله ليشرح لهم أنه سوف يحاول إنقاذهم، أو تخليصهم من هذا الجحيم الذي يعيشون فيه، لكنه، ونظامه، ومع كل أنة تصدر من فم جائع، يصرخون بتعالٍ: هذا الجائع متآمر.. وهذا ما حدث حين ارتفعت أصوات الناس في السويداء، فلم يبحث النظام في ملفاته كثيراً، ولم يبتكر مصطلحات جديدة، بل استعاد المفردات نفسها التي أطلقها على أول صوت هتف مطالباً بالحرية: هذه مؤامرة، وهناك أياد خارجية، وهناك مندسون!!!
وهل يحتاج جائع لأوامر خارجية كي يشعر بجوعه؟
وهل يندس الجوع؟
يحق للسوريين أن يتمنوا نيزكاً ينقذهم من اللاحياة التي تحسب عليهم حياة، فهم لم يعودوا يبصرون ضوءاً في آخر هذا النفق المظلم الذي يعيشون فيه..
ينظر السوريون بحسرة إلى القفزة الهائلة التي حققتها دول الخليج العربي، والبون الشاسع الذي بات يفصل بين بلدهم، وبين تلك البلاد التي يصفها نظامهم بأنها بلاد رجعية، ويتساءل مدون ماذا لو أن تلك الأموال التي أنفقت على كأس العالم، مثلاً، قدمت لسوريا؟ فيرد عليه معلق: كانوا سيسرقونها، ويبنون فيها معتقلات وفروع مخابرات.
يحق للسوريين أن يتمنوا نيزكاً ينقذهم من اللاحياة التي تحسب عليهم حياة، فهم لم يعودوا يبصرون ضوءاً في آخر هذا النفق المظلم الذي يعيشون فيه..
أخيراً، أستعير من الراحل رياض الصالح الحسين هذا التكثيف المدهش:
“يا سوريا التعيسة كعظمة بين أسنان كلب”.