غالباً ما تعلو في فترات الأزمات وأثناء الصراعات الأهلية وخلال الثورات وفترات الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية أو العكس، أسئلة وجودية كثيرة، يتعلق بعضها بالهُوّية الوطنية، والبعض الآخر يلجُ موضوع الأمة وعناصرها التي تتشكل منها، وغيرها يذهب إلى الدولة وأسس بنائها، ومنها ما يبحث في أسس العيش وعقد المواطنة الاجتماعي.. كل هذه الأسئلة وغيرها تُظهر بشكل دقيق قيمة المفاهيم في حياة الشعوب، فهي بحاجة لتحديد دائم لتثبيت الحدود، ليس فقط الحدود السياسية المجسدة بالسيادة على الجغرافيا، بل كل الحدود، وقد يكون أولها الحدود الثقافية المسؤولة عن تعريف الجماعة وتمييزها عن غيرها من الجماعات القريبة والبعيدة.
في هذا الإطار يتمّ الخلط كثيراً ما بين العناصر المشكلة لهذه المفاهيم وتجسيداتها الفعلية، مثل الخلط بين العناصر المُشكلة للهُويّة مثلاً وبين الهويّة ذاتها، وما بين الدولة كجهاز أو وعاء يستوعب الأمّة ويبنيها وينظّم المجتمع ويعبّر عنه وبين صفات الدولة ووظائفها، أو ما بين المواطنة وأسسها التي تقوم عليها، أو ما بين الأديان وأنماط التديّن... ويرجع هذا الخلط إلى اعتبارات عديدة، منها منطق التبرير العَقَدي الخارج عن سياق التاريخ، كما يفعل الدكتور محمد مختار الشنقيطي عندما يقول:
"إن كثيرا من الدول الديمقراطية ذات الغالبية غير المسلمة لم تقف على الحياد فيما يتعلق بالدين الذي تدين به الغالبية من مواطنيها، بل اتخذتْ لنفسها ديانات رسمية، ونصت على ذلك في دساتيرها من دون مواربة؛ علماً أنّ بعض الديانات التي تدين بها شعوب تلك الدول - كالمسيحية والبوذية - ليس في نموذجها التأسيسي بعدٌ سياسي أصلًا، فربْطها بالسياسة بدعةٌ طارئةٌ في مرحلة لاحقة من تاريخها، بعكس الإسلام الذي تضمّن أحكاماً وقيماً سياسية منذ ميلاده".[1]
فهذا الرأي يبحث عن مبرر للقول بوجوب عدم فصل الدين عن السياسة في البلاد التي تدين غالبية سكانها بالإسلام، منطلقاً من فرضيته القائلة بأنّ الإسلام قد تضمّن أحكاماً وقيماً سياسية منذ ميلاده. وهنا نرى كيف يتم تجاوز السياق التاريخي ذاته الذي نشأ فيه الإسلام ضمن محيط يفتقد للسلطة المركزية، وكيف أنّ هذا الدين الجديد قد أسهم بشكل فعلي وجبّار في بناء الدولة الإمبراطورية من جهة، وخلق الشعور بالعروبة كرابطة لمجموعة القبائل المتناحرة سابقاً من جهة ثانية.
يتناسى هذا الخلط حاجة المجتمعات البشرية للتنظيم. أمّا تلك القبائل السابحة في فراغ السلطة ما بين إمبراطوريتين عظيمتين آنذاك، ما كان لها إلا أن تسعى باستمرار نحو الحفاظ على وجودها من خلال مجموعة القواعد الناظمة له، والتي تمثّلت بمؤسسات الغزو كأحد أسباب صراع البقاء، والثأر كأحد أكثر أشكال حماية الفرد ضمن القبيلة، والديّة كأحد أشكال التعويض وتجنّب الانتقام الدائم، وإكرام الضيف كأحد أساليب البقاء على قيد الحياة والنجاة في مفازات الصحراء، وإطعام الفقراء كأحد أهم أشكال التضامن الاجتماعي. من هنا وجبت قراءة ارتباط الإسلام منذ نشأته بالسلطة، لأنها كانت مطلوبة بشدة لنقل تنظيم المجتمع القبلي من إطار تلك الأعراف المتوارثة، إلى إطار القوانين المنصوص عليها، والتي تتناسب وحالة التنظيم المجتمعي الجديد، الذي ظهر وتعزّز بعد تشكّل بذور الدولة وإطار الأمّة، في حضن الدين الإسلامي والرسالة النبوية.
الدين بما هو مجموعة قواعد تنظّم علاقة البشر بخالقهم، وطبيعة نظرتهم للكون ولذواتهم فيه، ولرسالتهم في الحياة الدنيا، يختلف عن السياسة التي تسعى على الدوام لتنظيم علاقة البشر بعضهم ببعض
لكن هذا لا يعني أنّ الإسلام يجب على الدوام أن يكون جزءاً من السياسة، أو أن تكون السلطة في البلاد التي تدين الغالبية من سكانها بالإسلام على الدوام ذات مرجعية إسلامية، لأنّ هذا السياق تاريخيٌ ويتبدّل بتطور المجتمعات، ويتغيّر بتغيّر المفاهيم التي تحكم بناءها وتسود فكر أهلها. إنّ هذه النظرة للدين التي تميّز ما بين الإسلام وغيره من الأديان السماوية وغير السماوية، فتجعله ديناً سياسياً، بينما تنفي عن غيره هذه الصفة، إنما تنزع عن الدين قداسته من حيث لا ترغب. الدين بما هو مجموعة قواعد تنظّم علاقة البشر بخالقهم، وطبيعة نظرتهم للكون ولذواتهم فيه، ولرسالتهم في الحياة الدنيا، يختلف عن السياسة التي تسعى على الدوام لتنظيم علاقة البشر بعضهم ببعض. وإنّ الحجّة المُساقة على الدوام بأنّ الإسلام احتوى هذه القواعد في نصوصه، لا تصمد أمام المقارنة التاريخية التي تبيّن أنّ جميع الأديان أخذت من محيطها الاجتماعي بالقواعد الأخلاقية والتنظيمية، وأضافت عليها وطوّرت بها، فالأديان جميعها تخاطب بالنهاية البشر في الواقع الأرضي، وليس الملائكة في السماء أو في فضاء الغيب.
لقد نشأت المسيحية في ظل إمبراطورية وثنية، لكنها متسامحة مع تعدد الأديان، لذلك لم تجد من الضرورة بمكان أن تشتغل على بناء قواعد السياسة ولا السلطة، لكنها عملت على ذلك عندما باتت دين الإمبراطورية مع قسطنطين. لقد بُنيت الكنيسة بداية على تمايزٍ وانفصال عن السلطة، لكنها بدأت مع الزمن تدخل في تفاصيلها الدقيقة، حتى وصلت إلى مرحلة كانت فيها سلطتها أكبر وأعلى من سلطة الأباطرة والملوك والأمراء. ولهذا السبب بالذات، أي لأنها بنت بيروقراطيتها الإدارية والسلطوية ضمن الدولة الإمبراطورية وبالاستقلال عنها وبالتوازي معها، فقد استطاعت النجاة وقيادة المجتمعات الغربية بعد أن أسقطت القبائل الجرمانية الإمبراطورية البيزنطية الغربية. لكن هذا لا يجعل الكنيسة دخيلة على السياسة لأنه "ليس في نموذجها التأسيسي بعدٌ سياسي أصلًا" حسب تعبير الدكتور الشنقيطي، بل لأنّ البيئة التي نشأ فيها الدين المسيحي لم تكن تفتقد للسياسة ولا للسلطة أصلاً على عكس البيئة التي نشأ بها الإسلام. وإنّ تطور السياقات التاريخية نحى باستمرار إلى المزاوجة بين الدين والسياسة، إلى أن انتصرت العلمنة في النهاية ضمن مساحات واسعة من المجتمعات البشرية، وخاصّة في القسم الشمالي من الكرة الأرضية. هذه العلمنة التي هي ليست مؤامرة على الأديان، بل هي الصيرورة التاريخية المتحققة في المجتمعات البشرية.
"العلمانية هي صيرورة تاريخية للتطوّر البشري، نَحَتْ باستمرار باتجاه فهم الإنسان للكون والطبيعة والمجتمع والنفس البشرية وفق قوانينها الخاصّة، مستبعدة مع الزمن منظومة التفكير الغيبي المستندة إلى قوانين ما ورائية في فهم وتفسير وتطوير هذه القضايا، ووصلت في المجالات السياسية والاجتماعية إلى اعتماد القوانين الوضعية لتنظيم شؤون المجتمع وحياة الأفراد وعلاقات البشر، فاصلة بين السياسة والدين كمؤسسات مختلفة المرجعية، مانعة تدخّل أيّ منها بشؤون الأخرى ضمن الأطر الدستورية التي تحدد قيم العقد الاجتماعي المعيّن، محافظة في الوقت ذاته على حياد الدولة تجاه جميع الأديان دون تبنّي أيّ منها ديناً رسمياً، موفّرة للأفراد حريّة الاعتقاد وممارسة العبادات وإقامة الشعائر والطقوس الخاصة بهم"[2].
علمانية الدولة لا تتناقض مع دين الأغلبية الإسلامية في منطقتنا، ولا مع أي دين آخر. بل هي الضمانة الأكيدة لعدم استثمار الدين سياسياً
من هذا المنطلق، نجد أنّ تضمين أغلب الدساتير في الدول الغربية العلمانية الطابع بالعموم، أو التي تتبنى فصل المؤسسات الدينية عن السياسة والحكم، إشارات دينية، نابع من كون الدين أحد عناصر الهُويّة الثقافية لهذه المجتمعات، وهذا ما نجده حتى في أشدّ الدول علمانية مثل فرنسا. في أوروبا - العلمانية سياسياً، المسيحية ثقافياً - العطلة الرسمية يومي السبت والأحد، والاحتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة منصوص عليها في القوانين، والصوم مسألة محتفى بها، وثمّة ضريبة باسم الكنسية خاصّة بمنتسبيها، أي أنها ضريبة طوعية لأعضاء المجتمع المنتمين للكنيسة والمسجلين في سجلاتها. لكن هذا لا يعني أنّ الكنيسة تحكم أوروبا، أو تتدخّل في السياسة وتفرض نظرتها للمجتمع والاقتصاد وعلاقات الدول. هي ببساطة تلعب دورها كإحدى القوى المجتمعية، وتأثيرها يكون من هذا المبدأ. فالكنيسة في بولندا لعبت دوراً كبيراً في التخلص من الاستبداد الشيوعي سياسياً، لكنها عجزت اجتماعياً عن إلغاء المنجزات المتحققة في مجالات المواطنة المتساوية والحقوق الفردية والحريات العامة ومكانة المرأة.
يقودنا هذا إلى القول بأنّ علمانية الدولة لا تتناقض مع دين الأغلبية الإسلامية في منطقتنا، ولا مع أي دين آخر. بل هي الضمانة الأكيدة لعدم استثمار الدين سياسياً كما رأينا قبل وأثناء وبعد ثورات الربيع العربي، وهي الضمانة لبقاء الدين عنصراً فاعلاً في حياة الأفراد والمجتمعات، باعتباره – إضافة لكونه معتقدا وشريعة – جزءاً أصيلاً من هوية هذه المجتمعات، دون فرض معاييره على السياسة، ودون الدخول في الصراعات على السلطة وضمنها. وهذا لا يمنع من تضمين الدساتير أية صياغات تتعلق بالدين الإسلامي، فهو جزء أصيل من ثقافة وتاريخ المنطقة، كما إنه حاجة أساسية لأتباعه من المسلمين، لكنّ ذلك لا يعني أنّه لا يمكن فصل مؤسسات الحكم عن المؤسسات الدينية الإسلامية أو غيرها، بل الأولى هو هذا الفصل، لمنع استغلال الدين الإسلامي وغيره أيضاً في معارك الطغاة ضد شعوبهم كما فعلوا منذ عشرات السنين وحتى الآن.