في واقع صعب ومُر، أشبه بالمسرحيات التراجيدية التي لا تنتهي إلا بالسقوط، أو بفيلم رعب يحكي عن قاتل متسلسل يطارد السوريين في كل مكان وينال منهم قتلاً وذبحاً وتشريداً وفي كل الأماكن في البر والبحر والجو، أتى زلزال قهرمان مرعش ليتوج المأساة السورية بتاج من دم.. وليضيف إلى سلسلة المدن السورية المهدمة عدداً غير قليل، فتلك التي لم تُهدم بالقصف والصواريخ والبراميل، هُدمت بالزلازل، وليضيف أيضاً أعداداً غير منتهية لفاتورة الدم السوري، الذي اعتقد البعض ممن خرج من البلاد أنهم في منأى عن الوسم الذي أصيبوا به كسوريين، لتكشف الأيام أننا أمام كارثة متكاملة وغير منتهية ممتدة منذ عام 2012 وحتى اليوم بلا انقطاع، ولكن بنكهة مختلفة لا رائحة بارود فيها ولا طعنات الأخوة الأعداء.. ولا ظلم ذوي القربى.
السوريون في تركيا ممن تهجروا من جراء الزلزال يحتاجون لإغاثة عاجلة، فهم لا يعترفون بالحكومة ولا بالنظام السوري
بكل الأحوال تتأتى دوماً المحاولات الأممية والدولية والإقليمية لإغاثة من تبقى على قيد الحياة لإخراج المفقودين والجرحى وإعادة إعمار المناطق التي تعرضت للهزة الأرضية، ولكن الموضوع في سوريا ليس مشابهاً للواقع في تركيا، فسوريا تشمل عدة طبقات من المتضررين ممن يحتاجون الإغاثة، حيث لدينا متضررو الزلزال ومتضررو الحرب الطويلة التي هدمت المدن السورية على رؤوس أصحابها، ولدينا فئة أخرى هي فئة السوريين المتضررين في تركيا الذين لا يمكن تركهم بلا مأوى ومسكن وإعانة، فهم ليسوا مواطنين أتراكاً ولا أولوية لهم ضمن المُصاب التركي الهائل الذي شل وسط البلاد بقوة تعادل خمسمئة قنبلة ذرية حسب تصريح الرئاسة التركية.
السوريون في تركيا ممن تهجروا من جراء الزلزال يحتاجون لإغاثة عاجلة، فهم لا يعترفون بالحكومة ولا بالنظام السوري، وفي ظل الانتخابات التركية وتوعد المعارضة التركية والضائقة التي تعيشها البلاد التركية وأولوية المواطن التركي المفهومة في كل شيء، سيتعرضون لأزمة حقيقية.
وكأن لعنة القدر مُصرة على تعميق جراح منطقة هائلة التوتر على المستوى الجيوسياسي. سلسلة من جبهات النزاعات تشتعل منذ عقد ونيف، تمتد من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى العراق وإيران واليمن وأفغانستان يتدخل فيها فاعلون إقليميون ودوليون بأجندات يطبعها التناقض. لذاك فإن هذه الكارثة تشكل تحديا لعمل هيئات ومنظمات الإغاثة.
لكن ومع كل ذلك تظهر في الأفق أحاديث متناثرة في أروقة الدبلوماسية عن تغيرات ما هنا وهناك، وعن كسر للأطر التقليدية للصراع المفترض في الشرق الأوسط، حيث تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن تلقي الحكومة الاسرائيلية طلباً في السادس من شباط من (سوريين) للمساعدة والإغاثة، وبأن حكومة نتنياهو قد وافقت، وبأنها ستقوم بتقديم المساعدة لسوريا كما قدمتها لتركيا، وتحدثت وسائل إعلام روسية عن وساطة روسية قامت بهذا الخرق، وسط نفي تقليدي من صحيفة الوطن السورية التي عادة ما تنقل الموقف الحكومي من القضايا الحساسة التي لا تعلق عليها الحكومة السورية في دمشق.
في مقلب آخر وقبل أيام من الزلزال تحدث وزير تركي عن استعداد أنقرة لقصف اليونان في حال استمرار التجاوزات في جزر بحر إيجة، ولكن اليونان كانت أول بلد يرسل فرق الإغاثة إلى تركيا، إيران كذلك فعلت، والاتحاد الأوروبي، السعودية ودول الخليج، قطر أرسلت مساعدات إلى سوريا. مما يعني تكسر الجدران التقليدية بين المعسكرات التي ظهرت في العقد الأخير، ولو بشكل جزئي بالجميع شعر بالتعب، والجميع يبحث عن حل إقليمي ينهي المأسة الشرق أوسطية النازفة.
ربما هو الجانب المضيء من المأساة هي في تواصل أطراف الصراع المفترض بعضهم بعضا من أجل إزالة القليل من التوتر وفتح أبواب جديدة للحوار الذي قد وصل إلى طرق مسدودة، كل هذا يجري إقليمياً، لكن داخل البلاد السورية لا تقارب ولا رسائل بين شمال سوريا (الحكومة المؤقتة) وبين حكومة النظام، ولا حتى بين هذين مع الإدارة الكردية الذاتية، حيث تفتقد الأطراف الثلاثة إلى سيادة ما على قرار الحرب والسلم.
ربما لم تك هذه المأساة هي الأولى في تحريك السكون السياسي والدبلوماسي، فقد أطلق هذا المصطلح على الحراك السياسي بعيد الكوارث التي تضرب الأطراف أثناء النزاع، وأشهرها كان التعاون الدولي بعد كارثة تشيرنوبل النووية في الاتحاد السوفييتي، فبعد إنكار موسكو للكارثة في الإعلام الرسمي، اعترفت بها بعد عشرات التقارير الدولية عن السحابة النووية التي تعم أوروبا، وسط عجز حكومي مريع عن القدرة على التعامل مع الكارثة النووية، تدخلت أوروبا حينها متمثلة بالطرف الألماني الذي يقف خلفه العمق الأوروبي والناتو، لتتدخل بعدها أغلب دول العالم الغربي لدعم الاستجابة السوفييتية الضعيفة لكارثة تشيرنول، التي كانت سبباً أساسياً لسقوط الاتحاد السوفييتي وإحداث تغيير شامل في الجيوبوليتيك العالمي.
ومن هنا يتأتى خوف حلف روسيا وإيران من فتح حكومة دمشق أبواب المساعدات للتدخل الإنساني وفرق الإغاثة الدولية التي تعني حسب مفهوم البلد المغلق المتبع في بلدان الحلف الروسي الإيراني، أن تفقد السيطرة على كل من يدخل وكل من يخرج، أضف إلى ذلك عدم قدرة مافيات الفساد على الاستفادة من عمليات الإغاثة التي تتحرك في دوائر مالية تقدر بمئات ملايين الدولارات، نضيف إلى ذلك الفوائد الجمّة من مرور المساعدات الإنسانية عبر آليات النظام البيروقراطية وما تعنيه من حجم عمولات مباشرة من تلك المساعدات.
هل ستنجح الدول بإجراء ضغط ما على النظام للقيام بخطوات جريئة في مسار الحل السياسي الذي يبدو أنه لا يؤمن به
تبدو فكرة دبلوماسية الكوارث الطبيعية التي تسير في طريقها بدفع من بعض الدول الإقليمية في المنطقة، بعد اصطدام الجهود العسكرية والأمنية والسياسية بحائط الصراع الإقليمي المرتبط بالصراع الدولي بين معسكري روسيا والناتو، فكرة جيدة.
لكن ما يهم حقاً هو نتيجة تلك الدبلوماسية الناتجة عن الكوارث الطبيعية، وهل ستنجح الدول بإجراء ضغط ما على النظام للقيام بخطوات جريئة في مسار الحل السياسي الذي يبدو أنه لا يؤمن به. بل يفضل مؤامرات ما تحت الطاولة واجتماعات الغرف السرية.