ظهرت في الفترة الماضية معلومات عن لقاءات يجريها مسؤولون أميركيون ومسؤولون أمنيون من النظام السوري في سلطنة عمان، وأشارت التسريبات إلى أن الهدف من هذه اللقاءات بالنسبة للمسؤولين الأميركيين إطلاق سراح الصحفي الأميركي، أوستن تايس، المختطف لدى النظام السوري منذ عام 2012م، كما أكدت وجود خلافات بين الطرفين حيال الثمن الذي يريده النظام لإطلاق سراح الصحفي الأميركي، فالنظام يسعى للحصول على مكاسب سياسية، في حين تريد الإدارة إبقاء التفاوض في الإطار الأمني.
الحقيقة أن دبلوماسية الرهائن واحدة من الآليات التي وظفها النظام خلال العقود الماضية، والنظام السوري ليس متفردا بها، فهي إحدى الاستراتيجيات التي تتبعها الدول الشمولية والدكتاتورية في علاقاتها الدولية، ولكن اللافت للنظر أنها شهدت تزايدا مضطردا في السنوات الماضية على خلفية احتدام الصراع بين القوى الصاعدة كالصين وروسيا والقوى الإقليمية كإيران من جهة، وبين الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية.
مارس النظام الإيراني الحالي هذه السياسة منذ لحظة وصوله إلى الحكم، واعتمدها وسيلة للتفاوض والحصول على تنازلات من أميركا وبريطانيا
تقوم دبلوماسية الرهائن على اقتناص الفرصة، فالمصادفة وحدها هي التي تقود الفرد ليصبح رهينة بيد هذه الدولة الدكتاتورية أو تلك الدولة الشمولية، لأن الأشخاص ليسوا مستهدفين على نحو شخصي، ولكنهم يستهدفون على نحو عشوائي حالما يمرون من أمام الأجهزة المكلفة من قبل الأنظمة القمعية بهذه المهمة، مهمة اختطاف الرعايا الأجانب والتفاوض مع دولهم لإطلاق سراحهم. وتعد الولايات المتحدة الأميركية أكثر الدول الغربية عرضة للابتزاز، فهي البلد الثالث في العالم من ناحية التعداد السكاني، والبلد الأول من الناحية الاقتصادية، الأمر الذي يعني أن الكثير من المواطنين الأميركيين يعيشون أو يعملون خارج حدود الولايات المتحدة، وفي دول تصنفها الولايات المتحدة دولا مارقة أو دولا تنتهج سياسات معادية لأميركا.
لقد مارس النظام الإيراني الحالي هذه السياسة منذ لحظة وصوله إلى الحكم، واعتمدها وسيلة للتفاوض والحصول على تنازلات من أميركا وبريطانيا على وجه الخصوص، إذ دشن حكمه باقتحام السفارة الأميركية واعتقال اثنين وخمسين دبلوماسيا لمدة 444 يوما، أطلق سراحهم في اليوم الذي غادر فيه الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، منصبه. وما زال النظام الإيراني يستعمل هذه السياسة حتى الآن، والتي تستهدف في المقام الأول المواطنين الإيرانيين مزدوجي الجنسية الذين يزورون أهلهم وأقاربهم في إيران، فيتخذهم النظام رهائن، ولا سيما أنهم كلهم تقريبا من أنصار نظام الشاه، ومن الناقمين على النظام الحالي. وعادة ما يستعمل النظام الإيراني سياسة الابتزاز هذه للحصول على أموال، أو للمقايضة بإطلاق سراح بعض عناصره المتهمين بالإرهاب والمعتقلين لدى هذه الدولة أو تلك.
الصين من أكثر الدول التي استخدمت هذه الأداة الدبلوماسية في السنوات الماضية، إذ نتذكر في هذا الصدد حادثة اعتقال منغ وانزو المديرة المالية لشركة هواوي من قبل السلطات الكندية بناء على مذكرة قضائية أميركية، وقيام الصين باعتقال مواطنين كنديين، جرت المقايضة بهما لإطلاق سراح وانزو. أما روسيا فآخر حلقة لها في هذا المسار اعتقال الصحفي الأميركي، إيفان غيرشكوفيتش، وتوجيه تهمة التجسس له.
تقوم دبلوماسية الرهائن على استعمال الدول الديكتاتورية نظامها القضائي أداة لتحقيق مكاسب سياسية، حيث تعتقل فردا أو شخصا تحت ذريعة قانونية غالبا ما تكون التجسس، ولا يطلق سراح هذا المتهم/ الرهينة إلا بعد الحصول على تنازلات من حكومته. وعادة ما تمارس هذا السياسة دول لا تخشى من تأثير هذه الممارسة على السياحة أو الاقتصاد، لأنها ليست وجهات سياحية. والحقيقة أن تهمة التجسس التي تلفقها تلك الأنظمة للرهائن الأجانب عدا أنها تهمة ملفقة على نحو يعرفه الجميع، تبدو تهمة مستهلكة في ظل عالم أصبح فيه كل شيء مكشوفا، ولم يعد من الصعوبة بمكان الوصول إلى المعلومات المراد الحصول عليها من خلال تجنيد عناصر من داخل أجهزة الأنظمة نفسها.
اتبعت الدول الديكتاتورية دبلوماسية الرهائن منذ زمن بعيد، ولكن الدول كانت تكل هذه المهمة للميليشيات التابعة لها، وفي مقابل التوسط للإفراج عن الرهائن كانت هذه الدول تحصل على زيارات دبلوماسية أو غض نظر القوى العظمى عن جزء من العقوبات المفروضة عليها، ولعلنا نذكر في هذا الصدد الزيارات التي كان يقوم بها مسؤولون أميركيون إلى سوريا في الفترة التي شهدت ازدياد حالات خطف الرهائن في لبنان في الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الدبلوماسية التي أبقت للنظام نافذة خلفية يفاوض من خلالها الولايات المتحدة، حتى في الفترة التي تعرض فيها لحصار اقتصادي خانق بسبب دعمه لجماعات مصنفة على لائحة الإرهاب الأميركية.
أسر الأشخاص المحتجزين شرعت بتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي للقيام بحملات ضغط على الحكومات كي تسرع من عملية التفاوض واستعادة المواطنين
كانت السياسات المتبعة من قبل الدول الغربية ترفض التفاوض مع الميليشيات والمجموعات الإرهابية، ولكن هذه السياسة تغيرت في العقدين الماضيين مع قيام دول معترف بها باحتجاز مواطنين غربيين واستعمالهم أداة للتفاوض مع الحكومات الغربية، ولكن ظهرت الكثير من العوامل التي أدت إلى تغيير موقف الدول من مسألة التفاوض في قضايا الرهائن، من أهمها وسائل التواصل الاجتماعي، ففي السابق كانت الحكومات تطلب من أسر الرهائن التزام الصمت على أن تعمل هي عبر قنواتها الخاصة على ضمان سلامة الرهائن وإطلاق سراحهم لاحقا، ولكن التغير الذي حصل أن أسر الأشخاص المحتجزين شرعت بتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي للقيام بحملات ضغط على الحكومات كي تسرع من عملية التفاوض واستعادة المواطنين. هذا إن لم نذكر قلة الخيارات أمام الدول التي يتعرض مواطنوها للاعتقال في ظل حركة الانتقال الواسعة بين الدول، فاقتصرت تلك الخيارات على تحذير السياح ورجال الأعمال والصحفيين والباحثين ومزدوجي الجنسية من السفر إلى تلك الدول، لأنهم قد يتعرضون فيها للاعتقال لدوافع سياسية. كل ذلك أدى إلى قبول الحكومات الغربية بتقديم تنازلات لم تكن تقدمها في المراحل التي سبقت ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وهي حملات وضغوط دفعت الإدارة الأميركية في عام 2015م لتعيين موفد خاص بالرهائن الأميركيين خارج حدود الولايات المتحدة الأميركية.
لا يعني ما سبق تبرئة دول مثل أميركا وبريطانيا من أوزار كثيرة ارتكبتها في بقاع العالم المختلفة، ولكن استعمال هذه الوسيلة يظهر المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الدول الشمولية والديكتاتورية في استهانتها بحقوق الإنسان، فالبشر يتحولون إلى سلعة في بازار الدول الشمولية كي تنال بعض الرضا أو الشرعية من دول الاستكبار والرأسمالية المتوحشة.