ضم جيش المجاهدين المشكل مطلع العام 2014 كتلتين كبريين داخل صفوفه هما الفرقة 19 من ريف حلب الغربي بمكونيها الرئيسيين (لواء الأنصار ولواء أمجاد الإسلام)، وتجمع فاستقم كما أمرت من مدينة حلب بألويته الثلاثة (السلام وحلب الشهباء وحلب المدينة الإسلامي)، إضافة إلى كتائب الصفوة الإسلامية من ريف حلب الشمالي، وحركة النور الإسلامية من مدينة حلب، وذلك بعد انفصال كتائب نور الدين الزنكي عن الجيش.
ورغم أن الجيش تمكن بالفعل من النجاح في أولى مواجهاته ضد تنظيم "الدولة"، لاعباً دوراً محورياً في طرده من الشمال السوري، إلا أن بنية الجيش الداخلية كانت تحدياً آخر أجلت مواجهته عند التشكيل لضرورة المعركة، وبات لزاماً على قيادته العمل عليه مع استقرار أوضاع الشمال نسبياً.
الدائرة السياسية لجيش المجاهدين
بعد تشكيل الجيش قام قائد لواء حلب الشهباء "ملهم عكيدي" بترشيحي لأكون ضمن المكتب السياسي التابع للجيش! وقد كان هذا الترشيح مستغرباً بالنسبة إلي، فشكل المكتب السياسي الذي ألفته الفصائل العسكرية آنذاك كان عبارة عن وسيلة لبناء علاقات دولية تستجلب التمويل للفصيل! فما الذي يمكن لي فعله في مكان كهذا؟! إلا أن الاجتماع الأول للمكتب السياسي كان كفيلاً بإزالة الاستغراب، بل وبدفعي للتفاؤل نظراً لما اعتبرته تطوراً في المنظومة العسكرية للجيش الحر.
كان واضحاً خلال الاجتماع الأول للمكتب السياسي حالة التنوع بين المرشحين من قبل التشكيلات المختلفة المشكلة للجيش، فأحد صناعيي حلب الناشئين وثلاثة مهندسين باختصاصات مختلفة كان أحدهم من المعتقلين لأعوام طوال في سجون النظام بتهمة الانتماء للطليعة المقاتلة، ومعيد سابق في جامعة حلب، ومغترب سابق خريج دراسات إسلامية، وشخص كان أقربهم إلي طالما عرف عن نفسه بـ "راعي غنم"، كلهم من أبناء مدينة حلب، ومحام ومدرس كانا من أبناء ريف حلب الغربي، وأصغرهم من دير الزور؛ طالب جامعي لم يتمكن من إنهاء دراسته في كلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب.
وكان لافتاً بالنسبة إلي أن لواء الأنصار المشكل في ريف حلب الغربي قد رشح ثلاثة كلهم من أبناء المدينة، بل من أبناء أحياء حلب التي بقيت تحت سيطرة النظام كممثلين لمكتبه السياسي، على غير عادة تشكيلات الجيش الحر المعتمدة على عصبها المناطقية.
تمت هيكلة المكتب السياسي في الاجتماع ليكون أشبه بدائرة سياسية، يتبع لها المكتب الإعلامي ومكتب علاقات خارجية وآخر للعلاقات المحلية، فضلاً عن قسم دراسات مصغر ومكتب توجيه معنوي داخلي، وذلك بمقترح طرحه ممثلو لواء الأنصار الثلاثة (مهندسان وصناعي) مع ممثلَي حركة النور الإسلامية (المهندس المعتقل سابقاً والمعيد الجامعي)، والذين تشاركوا -فضلاً عن رؤية موحدة للعمل- تاريخاً مشتركاً في النشاط الثوري داخل المدينة، مشكلين برفقة الإداري العام للجيش من أبناء ريف حلب الغربي فريق عمل مميز، سيكون لاحقاً النواة التي تشكلت بناء عليها كتائب ثوار الشام في أبريل \ نيسان 2015، والتي انتهت ضمن صفوف الجبهة الشامية، وانتهى الفريق فاعلاً مهماً في سياساتها، حتى شغل أحدهم -وهو الإداري العام "أبو ياسين"- منصب القائد العام للجبهة مدة عامين بدأت في أبريل \ نيسان 2016.
انقسامات الجيش
كانت الكتلتان الأساسيتان المشكلتان للجيش (الفرقة 19 – تجمع فاستقم) متباينتين في كل شيء تقريباً، إلا احتواءهما على مجموعات عسكرية نخبوية تقاربت سريعاً مع بعضها البعض، كما أن التمويل الذي كانت تتلقاه الكتل المشكلة للجيش بقي يأتيها على أساس أنها كتل منفصلة، وهو ما خلق داخل الجيش نوعاً من الانقسام بين كتلتيه الأساسيتين اللتين لم تستطيعا الاندماج فعلياً، لكن هذا الانقسام لم يكن الوحيد الذي شهدته صفوف الجيش آنذاك.
اقرأ الجزء الأول: "داخل بيت جيش المجاهدين (1)"
فقد كان واضحاً أن الدائرة السياسية من خلال بنيتها تريد الإشراف على الخطاب الخارجي المباشر (العلاقات) وغير المباشر (الإعلام) الخاص بالجيش، إضافة إلى البنية الفكرية لمنسوبي الجيش من خلال تشكيل مكتب التوجيه المعنوي والإصرار على أن يكون عمل المكتب الشرعي التوجيهي تحت إشرافه، كما حاولت الدائرة أيضاً الإشراف على هيكلة الجيش إدارياً على صورة لواء الأنصار، اعتماداً على جهود مختص درس "الإدارة" في إحدى جامعات أوروبا سبق له الإسهام في تخطيط بنية لواء الأنصار.
لتثير جهود الدائرة هذه واحدة من أقدم ثنائيات النشاط التنظيمي المسلح، بين النزعة المركزية للقادة العسكريين والتوجه المؤسسي للكوادر التنظيمية، حيث دفع نشاط الدائرة هذا القيادة العسكرية للجيش إلى التململ، والتي كانت ترى هذا الجهد تكلفاً لا داعي له في ظل ظروف المعركة آنذاك، مع وجود بعض القادة الذين لم يكونوا مرتاحين تماماً لأن تأخذ الدائرة السياسية صلاحيات واسعة كهذه، ولذلك لم تكن تتجاوب دائماً مع اقتراحات الدائرة السياسية، حتى اكتفت الأخيرة بعد نقاشات محمومة مع القيادة العسكرية بجزء يسير مما خططت له، وبالإشراف على ملف العلاقات الخارجية، أو أغلبها على الأقل!
فقد احتفظ بعض قادة الجيش بحضورهم للقاءات مع ممثلي الدول "الداعمة"، رغم إصرار الدائرة السياسية على ضرورة أن تكون هذه مهمتها، لكن الأهمية الكبيرة لملف الدعم بالنسبة للعمل العسكري، وعدم قناعة القادة العسكريين بنموذج مؤسسة تضم مراكز ثقل متعددة لإدارة فصيل عسكري تعودوا أن يكونوا فيه أمراء لا يُعصَون، حال دون ذلك.
رغم ذلك تمكنت الدائرة السياسية من تمثيل الجيش بشكل ممتاز بعيداً عن ملف التمويل، واستطاعت بناء علاقات ممتازة مع وزارات الخارجية التابعة لعدد من الدول الداعمة للثورة السورية، فضلاً عن نشاطها داخل الدوائر السياسية السورية التي تشكلت إبان انطلاق الثورة، حتى بات حضور ممثل عن الدائرة أساسياً في معظم اجتماعات المعارضة السورية، وبات للدائرة نفوذ مكنها من ترجيح رأي كتل على كتل أخرى داخل الائتلاف.
كما تمكنت الدائرة من أن تجعل "المشروع السياسي" هو الأساس الذي يبني عليه الجيش تحالفاته العسكرية، حيث بدأت العمل على تقارب بين تشكيلات الجيش الحر في الشمال تحضيراً لعمليات اندماج قادمة، كما دفعت الدائرة الجيش للتقارب مع الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام العامل في غوطة دمشق، رغم بعد المسافة وعدم احتكاك القادة العسكريين ببعضهم.
إضافة إلى ذلك ركزت الدائرة على بناء علاقة مع المثقفين والأكاديميين والكتاب والناشطين السوريين عموماً وفي حلب خصوصاً، في محاولة لاستعادة دور الجيش الحر الذي عانى خلال العام 2013 من تراجع في شعبيته، سواء لحساب التشكيلات السلفية، أو التحفظ على النشاط العسكري الثوري عموماً بعد التجاوزات التي كثرت عند بعض التشكيلات العسكرية في المناطق المحررة.
أما بالنسبة إلي، فقد كان نشاطي الأهم داخل الدائرة السياسية هو ملف تنظيم "الدولة"، حيث كان التنظيم قد جمد جبهاته شمال سوريا معنا مكتفياً باحتفاظه بريف حلب الشرقي وخط رباط طويل يفصله عن تشكيلات الجيش الحر في ريف حلب الشمالي، أما ثقل التنظيم الكامل فقد صبه على محافظة دير الزور شرق سوريا، والتي كان يخوض فيها معارك شرسة ضد تشكيلات الجيش الحر والفصائل السلفية بما فيها جبهة النصرة، محاولاً السيطرة على شرق سوريا وربط مناطق انتشاره في العراق بمناطق انتشاره شمال سوريا في محافظة الرقة وشرقي حلب.