قدمَ لي الرجل القهوة المرة. وضعتُ الفنجان جانباً.
نظر نحونا نظرة طويلة وقال لي: اشربوا قهوتكم، حاجتكم مقضية حتى لو أردتم أن تأخذوا أحد الأولاد لما ترددت في ذلك! لم يفاجئني الخطاب. فمنذ أن كنت طفلاً اعتدت على رؤية مثل هذا المشهد، وقد تكرر أمامي مرات لكون انتمائي العائلي يعود إلى إحدى تلك العشائر الفراتية. دعكَ مما يحصل بعد هذا الخطاب اليقيني من شيخ العشيرة، فبما أنه قال ما قاله، لا يمكنك إلا أن تشرب قهوتك، وقد أتبعها بضيافة التمر، قائلاً إنه من الخليج في إشارة إلى أنه طيب المذاق، وأنه ينتمي إلى الأصل هناك!
يمكنك أن تقول: إن المشهد لا ينتمي كلياً إلى المكان، بدا كأنه تداخل فضاءين غير منسجمين، فالرجل الذي يعيش في إحدى القرى الألمانية بالقرب من الحدود الهولندية في ولاية شمال الراين، وقد بنى في حديقة بيته بيتاً من الشعر وصنع مجلساً عربياً فيه جلسة على الأرض، أسس فيه مجمراً. تمت مواءمة بناء المجلس مع الظروف المناخية، حيث الأمطار الكثيرة هاهنا. ووضعت على جدرانه الداخلية شجرة نسب العشيرة وصورة لشيخها الرئيس الذي يقيم متنقلاً بين سوريا وإحدى الدول الخليجية.
بعيداً عن الانشغال بالأسئلة الجانبية، بدأ أنني متأثر بالطباع الهولندية، حيث الوضوح والمباشرة، فبادرته بالقول: أنت تعلم أننا نعيش في بلدان القانون هاهنا، وحريٌّ بنا أن نتأثر بالإيجابي فيها، وأن ننبذ السلبي مما حملناه معنا من بيئاتنا هناك! ولا شك أن الصلح هو الأفضل وحريّ بنا أن نقدم صورة تليق بنا كسوريين!
قاطعني الرجل على غير ما توقعت، بالقول: كلامك يا ابن أخي صحيح، لكن القانون لن يحصّل لي حقوقي إلا بعد فوات الأوان، نحن في معركة كسر عظم، إما أن نفرض احترامنا أو نفقد هيبتنا إلى الأبد، وما توقعتُ منك إلا أن تأتيني مناصراً وليس مناصحاً، نحن الآن في مرحلة خصومة ولسنا في مرحلة مصالحة، وكل لحظة لها لغتها وظروفها وحينها، سبق أن قتل هؤلاء "المحلمية" العام الماضي رجلاً "شلهومياً" سورياً العام الماضي، نحن البوسرايا لحمنا مر، يعلم ذلك الفرنسيون منذ أيام رمضان بك شلاش!
من الصعب، وربما من غير المجدي، أن تدخل بحوار مع اليقينيين والإيديولوجيين، لن تصل معهم إلى نتيجة تغييرية مهما حاولت، لديهم مقاييسهم الثابتة والراسخة، "كأن في آذانهم وقراً"
القانون الألماني يحصل لي حقوقي من الدولة ومن المواطنين الألمان، أما هؤلاء الذين اعتدوا علينا فليسوا بمواطنين ألمان، هؤلاء "محلميون"، جذورهم العشائرية غير معروفة، ليسوا عرباً وليسوا كرداً، وليسوا لبنانيين أو ألمانيين وإن تجنسوا بالجنسية الألمانية. اعتادوا عبر سنوات طويلة أن يكونوا مهابي الجانب بقوتهم وسطوتهم وعملهم بالممنوعات، نحن لا ننافسهم على أعمالهم، لكن لن نسمح لهم بأن يأخذوا منا "خوّة" كأننا من الأقليات الأخرى التي تسكن ألمانيا، أو يعتدوا على أعراضنا، لم نثر على بشار الأسد ونتهجر من مناطقنا ليذلنا أحد من جديد هاهنا!
يقول صديقي الذي يروي لي المشهد السردي: من الصعب، وربما من غير المجدي، أن تدخل بحوار مع اليقينيين والإيديولوجيين، لن تصل معهم إلى نتيجة تغييرية مهما حاولت، لديهم مقاييسهم الثابتة والراسخة، "كأن في آذانهم وقراً"، يتساوى في ذلك الإيديولوجي الديني واليساري والعشائري، وإنْ اختلفتْ أسباب يقينيتهم وامتلاكهم للحقيقة! شكلوا مفاهيمهم عن الآخر، وانتهوا منها، توقفوا عن التطور المعرفي في لحظة انتمائهم لتلك الإيديولوجيا. قد يكون الإيديولوجي العشائري أبسطهم، كون مرجعيته في تلك الإيديولوجية لها علاقة بمفاهيم الدم والحماس والتضامن والحاجة والفطرة.
كثيرون ينظرون لتلك الإيديولوجيا العشائرية على أنها حالة ما قبل عقلانية ويليق بمن تشكل لديه الوعي أن ينتقل إلى التفكير العلمي أو إلى إيديولوجيات ما بعد فطرية، أو ما بعد طفولية.
ويفرق عدد من المتابعين ما بين الانتماء إلى المكان أو العائلة أو الطبقة أو المهنة أو سوى ذلك، وغالباً لا يد لك فيه، والتمترس خلفها بصفتها حالة طهرانية لا تقبل النقد وتمتلك الحقيقة، وهي النقاء والصفاء. والانتماء بصفته معطى ثقافياً وحالة غنى وثراء نفسياً وعاطفياً وامتلاء يدفعك للتجاوز وتمثل القيم الأصيلة في تلك الحالة الفطرية.
وبدا أنه من الصعب أن يتجرد اللاجئون بعد وصولهم إلى أوروبا من تلك الانتماءات التي تشكل أحد العوامل الرئيسية لوجودهم أو لقائهم، خاصة أننا في سوريا لم ننجح إلى حد كبير في إنتاج خطاب أو شخصية وطنية سورية نتحقق من خلالها وتنوب عن تلك الانتماءات أو تهمشها، ومثل هذه الشخصية السورية المنتظرة، لا تتعالى على الانتماءات الأخرى بل تحقق مصالح للأفراد أعلى مما تحققه الانتماءات الفطرية أو الإيديولوجية الحزبية. والمشهد يقول إن أحداث السنوات السورية الأخيرة أسهمتْ في العودة إلى الانتماءات الأولى من دينية أو عشائرية أو حزبية، في محاولة بحث عن الأمان أو الخلاص أو التكتل وتحقيق المصالح، في ظل غياب مفهوم الدولة.
"العشائرية السورية" اليوم في بلدان اللجوء ليست عشائرية الدم فحسب، بل عشائرية الأفق الضيق والتكتلات التي تنكفئ على نفسها؛ حيث نشهد تجمعات وفقاً لأسس مكانية أو دينية أو قومية أو حزبية، تلغي الآخر وتنفّر منه وتشجع على الابتعاد عنه، وتحاول القول: نحن الأفضل والأول!
لا يمنع من حيث المبدأ أن تكون هناك أشكال انتماء متعددة لكل منا، ها هنا في أوروبا اليوم هناك تكتلات جديدة، يمكن أن نسميها تكتلات العالم الأول: النباتيون، ومناصرو البيئة، وقد تكون هناك حالات تستدعيها ظروف محددة، مثلاً يجتمع مربو الكلاب في حارة من الحارات معاً ويتبادلون الخبرات، أو هناك تبادل خبرات بين من لديهم مرض ما.
السؤال: لماذا لا يزال أبناء العالم الثالث يحافظون على تكتلاتهم القديمة وأشكال اجتماعهم وأسبابها؟
لماذا لا يتجاوزون تلك الانتماءات نحو مفاهيم المواطنة؟
على سبيل الإجابة يمكن القول: إن هذا من الصعب أن يحدث لدى الجيل الأول، نظراً لرسوخ تلك الانتماءات في ذهنه وتشكله في ضوئها، يمكنه أن يتأثر ويحدِث تغييراً بطيئاً!
الأهم من ذلك هو عامل زوال الحاجة إلى تلك الانتماءات وتحولها من معطى تكتلي عصبوي إلى معطى ثقافي ذاكراتي!
يمكن للاقتصاد أن يكون مدخلاً لقراءة تأشيرية للكثير من التحولات، ففي مرحلة الاقتصاد الرعوي الصحراوي يبدو الانتماء للعشيرة عامل وجود نظراً لأن القوة والعصبة هي الأساس، وقد أسهم الاقتصاد الزراعي إلى حد كبير في قصقصة أجنحة العشيرة نحو "الفخذ" إلى حد كبير، وفي اقتصاد المدينة باتت العائلة هي أبعد حالات الانتماء، أما في أوروبا حيث الاقتصاد الرقمي والرعاية الاجتماعية والبلدية هي الأم والأب فتظهر الفردية والفردانية بصفتهما أبعد درجات الانتماء والتواصل أحياناً لتحل بدلاً من العلاقات العائلية علاقات الاختيار والعلاقات التعاقدية التي باتت هي الأهم.
ويشير متابعون إلى أن أحد أهم عوامل توقف هجمات القبائل البدوية على قوافل الحج هي الأعطية السنوية العثمانية لشيوخ العشائر. وتلك الهجمات كانت تتناسب طرداً إلى حد كبير مع الأعطيات ومدى كفايتها، وتزداد تلك الهجمات في سنوات "المحل": عدم نزول المطر!
الشعور بالأمن والأمان في كنف العشيرة في ظل انسلاخات اللجوء. والاحتجاج المبطن على طرائق الاندماج في أوروبا وأنماط الثقافة الجديدة
في عودة للسؤال الأول: لماذا يحمل اللاجئون الريفيون السوريون عشائرهم في أذهانهم، وما هي الحاجات التي تلبيها العشيرة في أوروبا؟
على سبيل الإجابة يمكن القول:
- عدم مراعاة التحول التدريجي الاجتماعي في سوريا وفرضه من أجهزة الدولة والنظر إلى العشائرية بصفتها حالة رجعية قد أدى لإعادة التشكل وعودة حضورها في أول فرصة.
- الشعور بالأمن والأمان في كنف العشيرة في ظل انسلاخات اللجوء. والاحتجاج المبطن على طرائق الاندماج في أوروبا وأنماط الثقافة الجديدة، ومن المعروف أن الشعور بالخطر يعيد الكثير من الانتماءات الفطرية إلى واجهة التأثير. والرغبة بالتكتل لتحقيق حضور ما في المجتمع الجديد، والاستفادة من رابطة الدم كمدخل سريع لتحقيق ذلك.
- تحقيق مصالح اقتصادية وفرص عمل وتوظيف "الحمية العشائرية" في هذا السياق.
- التأثر بوجود تكتلات سورية أخرى تعتمد على المكان أو القومية أو الطائفة، يوجد على سبيل المثال تكتلات درزية سورية وإسماعيلية سورية وحمصية وحلبية وكردية وشركسية وإيزيدية، وتصدر تلك التكتلات خطابات فطرية وإلغائية وطهرانية لا تختلف كثيراً عن الخطابات العشائرية.
- النوستولوجيا وألم الحنين إلى الماضي نتيجة الخسائر الكثيرة التي مني بها السوريون، والشعور بالحرمان من الوطن الأم إلى أبد الآبدين!
السؤال كيف يمكن أن يكون الانتماء العشائري مدخلاً للوطني؟ وهل يمكن أن تكون العشيرة حاملة لمشروع وطني يتجاوز انتماء الدم نحو انتماء التعاقد؟
يرى متحمسون للعشائرية أن ذلك ممكن، ويستشهدون بأن تاريخ العشائر يعرف الكثير من تلك التحالفات، بل إن هناك قبائل كبيرة لا تنتمي إلى دم واحد بل إلى تحالف مصلحي أملته ظروف تاريخية ما!
باحثون في مفهوم المواطنة وتحولات الهوية يحسبون أن نبوغ الانتماء العشائري يمكن أن يكون نواة يبنى عليها بتفعيل العوامل المشتركة مع الآخر، فيما يرى باحثون متأدلجون أنه لا حل للعشائرية إلا بالتخلي عنها كلياً، وبين هذه الرؤية وتلك ينشأ جيل سوري ينتمي إلى البلدان الجديدة لا يعرف شيئاً عما يتحدث عنه الفريقان!