عبر التاريخ لم تنفصل الرياضة عن الإيديولوجيا، فكانت الرياضة تحمل رسائل سياسية وفنية وثقافية من خلال السيمولوجيا التي تبثها عبر بعض الممارسات أو الشعارات المستخدمة في العروض الرياضية، أو من خلال الألوان التي تحيل إلى دلالات محددة.
ولا ريب أن هذا الموضوع من الموضوعات الجدلية والشائكة؛ لارتباطه الشديد بتاريخ الشعوب وهويتها من جهة، وامتداده إلى التطلعات المستقبلية والأفكار التي يتم تبنيها من جهة أخرى. وهنا لن أتحدث فقط عن تسييس الرياضة، بل سأتحدث أيضاً عن تحوُّل الألعاب الرياضية القائمة في أساسها على المتعة والمنافسة والترفيه والتميُّز إلى رسائل مؤدلجة تتسرب إلى عقول أفراد المجتمعات بشرائحهم كافة، بوعي ومن دون وعي، فتتغلغل فيها، ومن ثم تزرع أفكاراً جديدة -هادمة أو بنَّاءة- وتدفن في رمالها معتقدات كانت راسخة وثابتة منذ زمن طويل.
في ثلاثينيات القرن العشرين وتحديداً في عام 1936، استضافت ألمانيا الألعاب الأولمبية، واستطاع النازيون أن ينتهزوا هذه الفرصة الذهبية للترويج لحزبهم السياسي في العالم، لتظهر النازية -على خلاف ما كان شائعاً- بمظهر المحب للسلام أمام ملايين الجماهير الذين توجهوا إلى ألمانيا لحضور فعاليات الأولمبياد. فلا وجود للعنصرية على الإطلاق، ولا وجود لما يسمى بمعاداة السامية. بل فعل هتلر ما هو أبعد من ذلك، إذ استطاع أن يزاوج بين البنية الرياضية المتميزة، من خلال عضلات اللاعبين الألمان الفتية وأجسادهم الممشوقة، وبين القوة العسكرية للجيش الألماني، ليبين للعالم، وعن قصد، حقيقة واحدة مهمة، وهي تفوق العرق الآري على كل الأعراق. ومن تحت الطاولة كان هتلر يمارس سياسته العنصرية، فقد كان يمنع الرياضيين اليهود من المشاركة في فعاليات الألعاب الأولمبية، ويعمل على حجب الجوائز عنهم بكل الوسائل والسبل، والغريب أنه بدأ بإعدام اليهود وتصفيتهم بعد يومين فقط من انتهاء الألعاب الأولمبية المقامة على ذات الأرض.
لم تدرك فرنسا حجم المشكلة التي وقعت فيها منذ يومها الأول إلا بعد أن تلقت العديد من الانتقادات من شخصيات دينية وعامة.
وفي فرنسا، يشهد نهر السين الملوث منذ أكثر من مئة عام تلوثاً بيئياً حاداً الألعاب الأولمبية لعام 2024، كما يشهد النهر أيضاً نمطاً فكرياً متطرفاً تجلَّى في افتتاح الألعاب الأولمبية. ففي اللوحة التي تمَّ عرضها في الافتتاح، والتي تحاكي، كما هو واضح للمشاهد، لوحة العشاء الأخير للرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي، تظهر أفكار غريبة ومنافية للسلوك البشري السليم، ويتم إسقاطها على رمز ديني أساسي في الدين المسيحي وهو السيد المسيح وتلاميذه. إذ استفزت اللوحة التي يؤديها ممثلون وراقصون متحولون جنسياً الرأي العالمي، لما فيها من انتهاكات لرموز الدين المسيحي. ولم تدرك فرنسا حجم المشكلة التي وقعت فيها منذ يومها الأول إلا بعد أن تلقت العديد من الانتقادات من شخصيات دينية وعامة. وقد أدى استياء بعض الفعاليات الاقتصادية إلى مقاطعة فرنسا وإيقاف إعلاناتها التي يتم عرضها ضمن فعاليات الأولمبياد، ما دفع فرنسا لتقديم اعتذار وتبرير؛ أمَّا الاعتذار فقد كان لتوضيح سوء الفهم الذي تعرضت له فرنسا في عرضها، فما قصدته فرنسا لم يكن الإساءة، على حدِّ زعمها، إنما قصدت التسامح المجتمعي، ومحاولة نشر المحبة والسلام، طبعاً على طريقتها الخاصة. وأما التبرير فكان من خلال توجيه مقاصد اللوحة الفنية المنتقدة إلى توجهات أخرى مغايرة، فقد وضح بعض النقاد على إثر هذه الانتقادات معاني اللوحة التي كانت تحاكي، كما يزعم الخبراء، لوحة اسمها "وليمة الآلهة" للرسام الدنماركي جان فان بيليرت، ولم تكن لوحة "العشاء الأخير" في بال مخرج اللوحة. وكأن هذا التبرير يرفع عن هذا العرض اللوم على ما تمَّ تقديمه سواء قصدت هذه اللوحة أم تلك، أو يمنع مشاعر النفور التي قد تنتاب كثيرين ممن يرفضون دعوات المثلية والشذوذ. وعلى كل حال فقد أدى هذا العرض غايته على أتم وجه، فالانتقادات التي وجهت له جعلته ينتشر انتشار النار في الهشيم.
هل يعني ذلك أن العالم يسير بجنون غير طبيعي نحو التقدم المادي والانحدار الأخلاقي؟
وفي الوقت نفسه الذي تزعم فرنسا فيه أنها تمثل الانفتاح الفكري والاجتماعي، ويرى دعاة هذا الفكر أنه لا وجود لخطأ يدفع فرنسا لتعتذر من العالم، لأنّ الاعتذار- على حد زعم أحد الممثلين الذين أدوا اللوحة يعني في حقيقته وجود خطأ، تتجلى ممارسات فرنسا المتطرفة والمتناقضة، وذلك حين رفضت وزيرة الرياضة الفرنسية أميلي أوديا كاستيرا مشاركة اللاعبات الفرنسيات المحجبات في دورة الألعاب الأولمبية المقامة على أرضها، وذلك امتداداً لقرار سابق ينص على منعهن من المشاركة في الرياضة، من دون أن تلقي أذناً لكل منظمات حقوق الإنسان التي تؤكد حرية المرأة فيما ترتديه وتعتقده، فالتقى في فرنسا الحار والبارد على سطح واحد.
في الحقيقة لا أدري كيف تحولت صورة فرنسا التي طالما تعلقت في ذاكرتنا بالحب والرومانسية إلى صورة تجسد الشذوذ والانحراف الفكري والاجتماعي، وكيف سقطت مبادئ الثورة الفرنسية وقيمها التي كانت تصدرها فرنسا للعالم بأجمعه، بما تحمله من مبادئ تنص على الحرية والمساواة. هل يعني ذلك أن العالم يسير بجنون غير طبيعي نحو التقدم المادي والانحدار الأخلاقي؟ هل يعني أن ترتيب سلم القيم سوف يتغير، وأن المثل الأعلى الجمالي في هذا العصر هو شيء مختلف تماماً عما كنا نسعى ونتوق إليه؟