حول حسابات واشنطن في التهدئة الإقليمية

2024.09.28 | 05:50 دمشق

آخر تحديث: 28.09.2024 | 05:52 دمشق

لبنان
+A
حجم الخط
-A

تحدث بيان أميركي – فرنسي مشترك عن موعد حان لإبرام تسوية تمكّن المدنيين على جانبي الحدود اللبنانية الإسرائيلية من العودة إلى ديارهم، لأن "الوضع الأمني القائم هناك يهدد بانفجار إقليمي واسع".  
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المواقف الأميركية الفرنسية حول جهود التهدئة بناء على القرارات الأممية المتعلقة بالوضعين اللبناني والفلسطيني، والتصريحات التفاؤلية التي أطلقها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري قبل أيام، وما واكبها من تحول في موقف رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي الذي قرر التوجه إلى نيويورك على عجل، فالواضح أنها تلتقي عند محاولة دفع تل أبيب وحزب الله نحو تهدئة أمنية، يعقبها مفاوضات متدرجة ومبرمجة بهدف صناعة هدنة جديدة تعيد الأطراف إلى التزامات الخط الأزرق بدلًا من تحويله إلى خط أحمر.  

هل هدف واشنطن وباريس هنا هو فعلاً الضغط على أطراف النزاع لقبول هذه الهدنة؟ ولماذا لم يفعلا ذلك طوال الأشهر الأخيرة لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؟ وأين حصة عشرات الآلاف من النازحين واللاجئين من فلسطينيي غزة في صفقة من هذا النوع، وتل أبيب وحزب الله يعلمان أن اشتعال جبهة القتال بينهما سببه ما يجري في القطاع الفلسطيني المحتل؟ ثم هل يسمح بعضهم في الإقليم بتقديم خدمة مجانية لطهران على هذا النحو، مما يخرجها أكثر قوة ونفوذًا بقرار أميركي – فرنسي؟ وهل وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود بعد التصريحات الإسرائيلية واللبنانية الأخيرة، أم كان هناك مناورة سياسية أميركية لتبرير أسباب دعم تل أبيب وإطلاق يدها لتواصل عملياتها العدوانية في قطاع غزة وجنوبي لبنان؟ أم هي مناورة هدفها تسهيل ذهاب الناخب الأميركي إلى الصناديق بعد أسابيع وسط هدوء إقليمي يصب في مصلحة المرشحة الديمقراطية؟


تشبه المبادرة الأميركية الجديدة على خط التهدئة الإقليمية حكاية الرجل الذي دخل مطعماً فاخراً فأكل وشرب وأراد المغادرة من دون أن يدفع الفاتورة. ولما سأله النادل عن الثمن، قال بسخرية إن حفيده هو الذي سيدفع الحساب. رد عليه عامل المطعم بسخرية موازية: "أنا لا أطالبك بثمن ما أكلت، بل بفاتورة قديمة لجدك لم يسددها بعد".  

تأكل أميركا وتشرب منذ سنوات طويلة من دون أن تدفع، ونحن في الإقليم من يتحمل ذلك بالمجان. يهاجم حليفها الإسرائيلي قطاع غزة منذ مطلع تشرين الأول المنصرم، يقتل ويدمر على مزاجه من دون رادع سياسي أو عسكري أو أخلاقي. يقرر توسيع المعركة ونقلها إلى جبهات جديدة بتشجيع ودعم عسكري سياسي مادي أميركي. لا أحد يتجرأ ويسأل عن الآلاف من الضحايا ومن سيحاسب على ارتكاب هذه الجرائم التي تجري على مرأى ومسمع المؤسسات القانونية والسياسية الإقليمية والدولية.


بعد تدمير غزة، الهدف هو لبنان. الدولة اللبنانية وأجهزتها ومؤسساتها غائبة عن المشهد العسكري والميداني لصالح قرار حزب الله والداعم الإيراني. الحكومة اللبنانية تنشط دبلوماسياً في المحافل الدولية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية، لكن الذي يقف في الجانب الآخر من المعادلة هو حزب الله بسلاحه وعناصره ومن قرر دعمه والوقوف إلى جانبه في العراق واليمن. هل ستسهل السلطات اللبنانية دخول هذه العناصر ووصولها إلى جنوبي لبنان كما تجاهلت حتى اليوم البحث في أسباب وشكل توجه عناصر حزب الله إلى سوريا لتتواجد في خندق واحد مع قوات النظام السوري في مواجهة من رفع شعار الإصلاح والتغيير والديمقراطية؟

معادلة قابلة للنقاش تقوم على وضع النازح اللبناني في مواجهة النازح الإسرائيلي. لكن انتقال آلاف سكان الجنوب اللبناني إلى سوريا طلباً للحماية والأمن، يحمل معه تساؤلًا: من الذي تسبب بنزوح مئات الآلاف من السوريين عن أراضيهم منذ عقد ودفعهم للبحث عن الأمان في دول الجوار السوري؟

معادلة قابلة للنقاش تقوم على وضع النازح اللبناني في مواجهة النازح الإسرائيلي. لكن انتقال آلاف سكان الجنوب اللبناني إلى سوريا طلباً للحماية والأمن، يحمل معه تساؤلًا: من الذي تسبب بنزوح مئات الآلاف من السوريين عن أراضيهم منذ عقد ودفعهم للبحث عن الأمان في دول الجوار السوري؟  

تعرف واشنطن تفاصيل الحكاية كلها لكنها اختارت الصمت حيال ملف يخدم التصعيد فيه مصالحها وحساباتها. العمليات العسكرية هي بين الجيش الإسرائيلي وعناصر حزب الله المدعوم إيرانيا. فكيف سيكون شكل التفاهمات والهدنة من النواحي السياسية والقانونية والتقنية؟ ولماذا يقبل حزب الله وساطة أميركية وهو الذي أعلن أن تحركه كجبهة إسناد لغزة لن يتوقف حتى ينتهي العدوان الإسرائيلي الذي تقوده وتحركه واشنطن هناك؟ وهل من الممكن أن تسقط الإدارة الأميركية في مصيدة تسهيل الحوار غير المباشر بين تل أبيب وحزب الله لتقوي الموقف الإيراني الإقليمي أكثر وتمنح طهران المزيد من الثقل والنفوذ على خط تفويضها بالحديث نيابة عن 4 عواصم إقليمية دفعة واحدة؟  

وجود حزب الله أمام الطاولة الخلفية المرتبة وراء ستار يفصل عن طاولة موازية تتمثل فيها الحكومات، سيوفر له المزيد من المشروعية والثقل السياسي في لبنان والمنطقة. منح حزب الله مثل هذه الفرصة يعني منح إيران المزيد من الثقل والنفوذ، لتكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في التفاهمات الإقليمية القادمة. من مصلحة واشنطن هنا تعقيد المعقد أكثر عبر لعب ورقة إيران وحليفها اللبناني لقطع الطريق على جهود تغيير المعادلات والتوازنات الإقليمية التي بدأت تتشكل على حسابها في العامين الأخيرين.  

هل هناك مبالغة في طرح تصور يذهب باتجاه أن أحدهم يحاول من جديد تفعيل خطة تغيير ديمغرافي في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين، والعمل على نقل آلاف السكان عبر هذه المناطق بغطاء مذهبي، تحت ذريعة التهجير والمشاركة في المعارك الدائرة، وأن هذا قد يكون سببا كافيا للقول إن الإدارة الأميركية لن تدعم في هذه الآونة أي مبادرة لوقف إطلاق النار والتهدئة لأنها لا تخدم هذا المشروع اليوم؟  

تعلن واشنطن أنها تدعم خيار التهدئة والسلام في المنطقة لكنها لا تريد أن تتراجع خطوة إلى الوراء في موضوع تقديم الدعم العسكري والسياسي لحليفها الإسرائيلي. أي تحرك أميركي لن يكون على حساب علاقات واشنطن بتل أبيب وما يريده نتنياهو، حتى ولو دفع الناخب الأميركي ثمن ذلك بعد شهرين.


تتحدث واشنطن عن شيء لكنها تفعل شيئا آخر. تعلن أنها تدعم التهدئة والحوار في المنطقة، لكنها لا تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء في مسألة مواصلة منح إسرائيل كل ما تحتاجه من دعم. هي مع جهود التهدئة ولكن ليس على حساب نتنياهو ومن دون استخدام أي وسيلة عقابية ضده. وعدت أكثر من مرة بدعم جهود الحوار والسلام في المنطقة، لكنها تخلت عن كل ذلك عندما شعرت أنها قد تطول أو تهدد مصالح إسرائيل ونفوذها.  

منح نتنياهو واشنطن أكثر من فرصة لتناور على خط التهدئة والحلحلة لكنها تجاهلتها وفرطت بها. تفجيرات البيجر وارتداداتها المادية والسياسية والأخلاقية كانت ورقة بيد الإدارة الأميركية لكنها تركتها تمر من دون أن تتحدث عنها حتى. واضح تماما أن هدف بايدن هو صناعة تهدئة ظرفية مؤقتة لامتصاص الغضب الإقليمي وردود الفعل الدولية، ثم إطلاق يد تل أبيب من جديد لمواصلة ما بدأته. أي تحرك أميركي يُطرح اليوم لن يكون خارج أهداف: عزل غزة ودفع الجانب الفلسطيني لقبول العرض الإسرائيلي الأميركي، ولعب ورقة الداخل اللبناني لمساومة إيران وحلفائها هناك، ومنح نتنياهو المزيد من الوقت والفرص للوصول إلى ما يريد باتجاه تغيير الخرائط الإقليمية كما أعلن هو.  

تعرف واشنطن أكثر من غيرها أنها هي التي أطلقت يد نتنياهو ليفعل ما يريد ويوصل الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد. فمن الذي سيقف إلى جانبها بعدما فرطت بأكثر من فرصة إقليمية سانحة منحها لها غياب موسكو وبكين والتزام العديد من العواصم بما تطرحه وتريده؟  

تل أبيب أقنعتها بحاجتها إلى ما تقوم به "لحظة سانحة لا يمكن تعويضها إما أن نستغلها معا أو نخسرها معا في الساحتين الفلسطينية واللبنانية"، وهذا ما تفعله واشنطن اليوم.