حضور المجتمع المدني السوري وتغييبه سياسياً

2024.06.22 | 06:24 دمشق

آخر تحديث: 22.06.2024 | 10:01 دمشق

بروكسل
+A
حجم الخط
-A

لم نعرف قط كعرب مفهوم المجتمع المدني، وقد تأخر ظهوره في أدبياتنا السياسية التي هي أصلاً فقيرة المحتوى وشحيحة التنوع. ومع وجود حالة استيراد الأيديولوجيا من الغرب وأماكن أخرى في العالم، لم نجد لمفهوم المجتمع المدني أي شيء يذكر. لكن المشهد السوري شكل انعطافة، حيث كانت البيئة مستدعية أو مستقبلة لهذا المفهوم في ظل اختلاف وصل إلى حد الصراع حول علاقة السياسي بالديني تارة وبالثقافة تارة أخرى.

قبل أن أعرف هذا المفهوم كما ينبغي حسب مصادره، أود أن أشير إلى ريبة معينة متعلقة بهذا المفهوم كأسلوب لممارسة نظرية وعملية تغطي أهدافاً سياسية وعقائدية لمصدري المفهوم. ومن خلال تتبعي لنشاط المبادرات التي نتجت عن هذا المفهوم، أرى أن الكثير من الإمكانات والكثير من المعوقات قد تعترض سبيل مفهوم المجتمع المدني. وسنأتي على ذكر بعضها بعد أن نعرض تعريف مفهوم المجتمع المدني.

أحد التعريفات يرى أن مفهوم المجتمع المدني ما هو إلا طريقة لإنتاج السلطة. وبالعودة إلى حالة تعثر هذا المفهوم عندنا، تكمن المشكلة في النظر إلى منبعه الذي يأتي دائماً مع مجمل المفاهيم التي أتت من الغرب محل سوء ظن. وكما كل مفهوم، يُحاط بحالة من النزق أو التشنج، على أساس أنه غير بريء لأنه أنتج في ظروف لا تشبه ظروفنا السالفة أو الراهنة.

هنا نجد حالة التباس في وعي المفهوم، خاصة عندما نعتبره معاكساً تماماً ومفهوماً اغترابياً عن أفقنا وتاريخنا ومعاشنا. وهذا إخفاق نظري وقصور في الوعي. فكل ما أنتجته الحضارات من مفاهيم قابل أن نخلع عليه أي دلالات وأن نطوعه ليكون عامل بناء وعمار في نشدان الدولة الوطنية.

يحق لنا أن نجرم عملية التغييب السياسي الذي قامت به السلطة، وأيضاً الخلل الذي ميز تجارب أصحاب العقائد الذين حرصوا على استيراد مفاهيم بقياسات ومعايير منشأها

يحق لنا أن نجرم عملية التغييب السياسي الذي قامت به السلطة، وأيضاً الخلل الذي ميز تجارب أصحاب العقائد الذين حرصوا على استيراد مفاهيم بقياسات ومعايير منشأها. وبدلاً من أن يكون اليسار أو اليمين حالة خروج عن الجمود وحالة تغييرية، كانوا هم أنفسهم طلاباً يقدمون امتحانات جامدة وماضوية، وحصروا مع السلطة المجتمع داخل أسوار التوهم على اعتبار أن النظريات ستجد مكانها بمجرد قبولها.

ولما كان المجتمع سيرورة تاريخية أو ثورة لتعيين العلاقات الاجتماعية، فهذا يعني أن القدرة موجودة على أن يعبر المجتمع عن نفسه بمعزل عن تصورات وافتراضات وسجالات السياسة. ومن حقه أن يكون له مجتمع مدني يعبر عن همومه وانشغالاته عبر ممارسة فاعلة مدعمة ومستندة إلى تدابير قانونية مدنية نوعية تنتجها الدولة الوطنية المنشودة. وهنا تظهر القدرة على توظيف الفكرة أو المفهوم دون خوف أو تشكك، إذ تمنحها عملية التثاقف والتأويل طاقة فعالة ومنفتحة على العالم والدولة والمجتمع.

فالمجتمع المدني هو ميراث كوني ومحايد من القيم المتراكمة والمتقاطعة، يؤخذ ويستعاد حسب ما يناسب ويلزم. فالدولة هي سلطة إكراه وتقييد، كما يقول الدكتور برقاوي، وسيرورة المجتمع المدني تكمن في أنه يقيم الحد الفاصل بين هيمنة السلطة وحرية المجتمع. فالنقابة المهنية والحرفية والحقوقية هي آليات دفاع ضد هيمنة الدولة.

ومن الجدير بالذكر أن الأنظمة الشمولية منعت ذلك تحت تجمع العقيدة، وقضت بذلك على نماء المجتمع المدني. وفي الدول الناشئة التي ألحقت نفسها أو تم إلحاقها بهوامش الأنظمة الشمولية، كانت الصورة في التحكم والهيمنة تأخذ صيغة أجهزة أمنية موازية للنقابات والاتحادات، وحددت مهمتها كعامل معوق بل حزام أمني وطوق خانق لأي انفراد.

وهكذا كانت طبيعة التحولات كابحة لظهور المجتمع المدني. وكان لا بد أن تقدم الثورة السورية كل ما هو ضروري لاستقدام المجتمع المدني، والذي يفترض أن يعوض الغياب السياسي وضرورة اللقاء مع الآخر عبر حوار منتج ومتجاوز. وبات الأمر ملحاً رغم التوجس من مفهوم المجتمع المدني، الذي يبدو توجساً غير مبرر وقد عُمم وأشيع عن فحواه الكثير من غياب الحقائق بهدف بقاء السلطات القهرية المطلقة.

وباتت مفاهيم المجتمع المدني حاضرة ولو بخجل، وما زال يعاني الحصار والحظر في ظل غياب الديمقراطية وشهوة السلطات وانعزالها ورغبتها في التحكم المطلق. إلا أن إرهاصات مثل هذا المجتمع ستحضر لضرورة تاريخ حكايتنا السورية العظيمة، الحكاية التي حاربت وتحارب مركب السلطة القهرية والانحطاط والرداءة، وتتجه بقوة لاستشراف آفاق حداثية وتحررية تليق بكرامة الإنسان السوري.

 

كلمات مفتاحية