ما زلنا نحن السوريين نعيش تداعيات صراعنا المزمن والمرير مع نظام الأسد الوريث وفروعه المشبوهة، وفروع أخرى تلبّس بعضها اسم المعارضة الإشكالي العريض بعد أن قزم المصطلح وأحرج من سياقه، فغدا يطرح على كل من يقف في وجه الأسد سياسيًا ومن رفع السلاح وجند الفصائل وتلقى التمويل الخارجي وعمل كبندقية مأجورة. وتجاهل الجميع مصادر تمويلها وتسليحها والأجندة التي يسعون إلى تنفيذها، ثم إلى من ستؤول نتائج صراعها الحامي ليستثمرها في مصالحه وتابعيه.
لقد نقل هذا التكالب على التسلح الموصول بالتسلسل أو التفرع مع دول خليجية وإقليمية حيثيات ذلك الصراع من أيدي ممثلي السياسيين المدنيين في المجلس الوطني إلى الائتلاف المؤلف بتوافقات، أطاحت برغبات السوريين خلفها ومضت أو دفعت بها وأقامت الائتلاف بمظهر احتفالي ودولي، ولكنه لم يستطع أن يغطي على فراغ ذات يده وضعف الأوراق التي يحملها ويفاوض عليها، والتي ما لبثت أن تعرت بدءًا من جنيف الثاني 2014. بدا أن لعبة تدوير الكراسي بغطاء دبلوماسي وسياسي أممي قد ملكت يدها من كل شيء مكتفية بهزّ رؤوس الائتلافيين بالموافقة. أعلنت الدول الصديقة عن تشكيل غرفتي الموك والموم، موسعة عبرها تدخل دول إقليمية ودولية، وكأن شروط اللعبة الهادئة والمنضبطة والمقبوضة باليد الأميركية هي من لوازم استمرار اللعبة والاتزان بين نظام يوضع كاحتياط لاحق ويظل قيد المقاطعة والمتابعة المرنة والعين الحمراء، ريثما تتم عملية تصفية داعش وإزالة المخاطر التي يحملها هذا التنظيم الهجين الذي لم يتفق على أبوته، وصولًا إلى نسبته إلى آباء كثيرين، لكن أكثر أبوته أصالة هو انتسابه إلى وحوش العصور الوسطى بوسائل أحدث وأكثر تدميرًا وخرابًا.
لعبة من ألعاب السحر والخفة والتخدير مرت على الائتلاف العتيد، ولم يزل هو ولم نزل نحن نحصد مرّ حصادها. فبدءًا من لعبة الحد الأدنى بين أوباما وبوتين، وبدعم خفي من نتنياهو، تجاوز الأميركي أوباما خطه الأحمر بعد ضربة الأسد بالسلاح الكيماوي على الغوطة 2018، وقايض أوباما الدم السوري بتوقيع الملف النووي. انتصرت روسيا وجرت معها نظام الأسد من ورطته ومن تعرضه لضربة أميركية ربما كانت قاضية على نظامه.
ولكن الاتفاق الذي وقعه أوباما بعد ذلك مع إيران جاء مفسرًا لتراجعه عن خطه الأحمر، الذي لم يخجل عن النكوص عنه بعد أن أسمع العالم بقراره وبات الجميع ينتظر لحظة الفصل بين الجدي واللعب. وبدا أن اللعب يستهوي قادة العالم وبموجبه يتجاوزون خطوطهم الحمراء، لا سيما أنه لا يوجد من يعاقب أو يحاسب، بل هناك من يشجع ويدفع لتجاوز معاقبة نظام الكيماوي لكونه لا يخسر شيئًا من جيبه، بل قد يوفر لهم مزيدًا من الطمأنينة مع جار طيب خبروه مرة بعد مرة فأظهر تأدبًا وتقبلًا لكل الخراب والموت في مواقعه وجنوده، ووضع كل هذا بمسؤولية إيران على الأرض وروسيا في الجو وهو في أمان ولا أحد يستهدف رئيسًا ميتًا سريريًا ينفذ كل شيء من خلف ظهره.
اللعبة الدولية عادت لتدور في فراغ وفي وعود لا رصيد لها على أرض الواقع.
أعلن الائتلاف في نهاية 2012 ببهرجة احتفالية، أسهمت بها الدول الراعية وأبطال مرشحون لاحتلال الواجهة الجديدة. تحقق لهم إبعاد ممثلي المجلس الوطني والاستعاضة عنهم بطاقم أكثر تلاؤمًا مع اللعبة الدولية وأكثر طواعية وسرعة لتلبية مطالبها. رغم أن المجلس الوطني كان هيكلاً قائمًا ومستقلاً إلى جانب الائتلاف، لكنه في الحقيقة كان قد أخلى دوره الرسمي للبديل الائتلافي، الذي تضمن أكثر من عشرين ممثلاً عن المجلس الوطني، وحافظ على بنيته ووجوده الشكلي كاحتياط، كي لا نقع في الفراغ إذا فشل الائتلاف. ولكن مؤتمر جنيف الثاني الذي عقد في 2014 ورفض المجلس حضوره بالإجماع، سرعان ما قوّض ما تبقى من كيان المجلس الوطني، وذلك لأن بعض شطار أعضاء المجلس، ولا سيما من تنظيم الإخوان المسلمين و"الإسلام السياسي" وغيرهم، نقضوا قرارهم وتساقطوا بالباراشوت على جنيف، ولم ينفع معهم قرار قيادة المجلس برئاسة جورج صبرة ثنيهم عن الحضور. بل كان هذا بداية انفراط عقد المجلس الذي عاش أكثر من عام إلى جانب الائتلاف. وبدا هنا أن اللعبة الدولية عادت لتدور في فراغ وفي وعود لا رصيد لها على أرض الواقع، وقد بدأت بتغيير مندوبي الأمم المتحدة، بدءًا من الأخضر الإبراهيمي الذي استقال أمام العراقيل التي وضعتها الدول المتنافسة أمام الحل السياسي، وحل محله دبلوماسي سريالي ديمستورا (بسبعة أرواح).
جنيف تلك اللعبة المتكررة بآليات بالية، والتي أفرغت من مضمونها ليملأها لاعبون متفرغون.
كرت السبحة وتراجع كل المراهنين على حل العقدة الأساسية في هيئة التفاوض، التي تتطلب إخلاء السجون والمغيبين وإنشاء هيئة حكم انتقالي، وغيرها. ولكن أميركا توجهت لمحاربة داعش وتحييد النظام أو برمجة الصراع معه وتركه في ظل المهادنة عسكريًا والحرب الإعلامية الكلامية ومنع السلاح الاستراتيجي عن الفصائل وفقًا لرغبة الأميركان، كالأسلحة المضادة للطيران التي أضعفت من إمكانيات التصدي للنظام، وبذا لم تعد قادرة على تغيير شروط المعركة لا في الجنوب درعا والقنيطرة اللتين كانتا محط رهان أساسي، ولا في الشمال حيث ضربت الفوضى واحتل الصراع مع داعش ساحة الحدث، وصار كل ما هو سوري محض ثانوي.
المراجعة الموضوعية لمسار صراعنا الدامي مع النظام تشير إلى عدة أمور يجب أن تكون واضحة بوصفها حالة تخلي وسقوط بالخديعة وبيع بالرخيص. أولاً، التكالب وسهولة الانقياد خلف من اتخذوا صفة (أصدقاء) سوريا، وقادوا المفوهين والممثلين في الائتلاف إلى منزلق خطير، بدءًا من الأستانا بعد سقوط حلب 2016، ثم سوتشي التي حولت التفاوض إلى اللجنة الدستورية، والابتعاد عن أولويات جنيف 2015، وأهمها الإفراج عن المعتقلين والمغيبين، وإيقاف حرب النظام وحلفائه، وتشكيل هيئة حكم انتقالي، وهو ما لم يتحقق أيضًا. بل بتنا نداور ونحاور ونتفاصح لمجرد الحصول على لقاء اللجنة بجناحيها الرئيسين: النظام والمعارضة، ولجنة المجتمع المدني، ولكي نسوق للسوريين وهم الحلول المنتظرة.
الواقع أن الشعب السوري لم يعد يولي هذه الهيئة ولا حاضنها الائتلافي أي أهمية، وبات يدرك مقولة (لا يحك جلدك سوى ظفرك). ولمن نقول، والكل غدا بلا أظافر ولا جلود أصلًا قابلة لذلك.
جنيف تلك اللعبة المتكررة بآليات بالية، والتي أفرغت من مضمونها ليملأها لاعبون متفرغون، وقد أصابهم السأم وأصبح حضورهم تكملة لمراضاة المهمشين، وليستمروا بقبض مرتبات الأمم المتحدة العالية، ولنترك السوريين في الخيام والشتات لجوعهم وموتهم المادي والمعنوي في بقاع الأرض التي لم تعد تطيق وجودهم لا كلاجئين ولا ضيوف ولا أنصار، بل بلا أي تسمية مخادعة أخرى.