أمضى حياته الحزبية وهو يسير على درب غاندي. ينتهي به الطريق عند "تقاطع بروتس" حيث طعنه أحدهم من الخلف كما قال. تعرف إلى الفاعل لكنه لا يريد البوح باسمه كي لا يخرج عن مسار المهاتما. هذه باختصار حكاية وصول زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض كمال كليتشدار أوغلو إلى موقع قيادة الحزب ومغادرته له.
العلاقة الغرامية بين كرسي الحكم والكثير من القيادات السياسية قديمة جدا. لا فرق بين يساري ويميني وعلماني ومتدين وديمقراطي ودكتاتوري عند هتافات المطالبة بالبقاء وضرورة الاستجابة لها. لا قيمة لمسألة العلاقة بين القواعد والقيادة عند قناعة "الزعيم" أن رحيله سيضر بالمصلحة العامة. اليساري العلماني الديمقراطي كمال كليتشدار أوغلو الذي تجاوز 75 عاما راوده نفس الشعور أيضا. لا يمكن التفكير في أخذ السترة والمغادرة في هذه المرحلة الصعبة التي يعيشها الحزب والبلاد، لأن الكارثة هي الاحتمال الوحيد الذي سيحل بالجميع من بعده!
قليل هو عدد من كان يراهن على إزاحة رئيس حزب الشعب الجمهوري كليتشدار أوغلو عن منصبه بعد 13 عاما من التمسك بكرسي الرئاسة، رغم محاصرته بقرار الذهاب إلى مؤتمر عام توحد فيه جناح التغيير في الحزب خلف أحد أقرب أعوانه أوزغور أوزيل المدعوم من قبل رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو.
لم تقتنع قواعد حزب الشعب وكوادره بقدرة كليتشدار أوغلو على تنفيذ وعود التغيير والتجديد وهو يستعد لمواجهة جديدة مع حزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور بعد 5 أشهر في معركة الانتخابات المحلية المرتقبة. كان عليه أن يقوم بما يليق بزعيم سياسي خسر 13 معركة في مواجهة أردوغان وحزبه لكنه لم يفعل. راهن على ثقة الحزب به وقدرته على إعادة توحيد المعارضة الجريحة. لكن مئات المندوبين في حزبه حملوه مسؤولية تأخره وتردده وعدم قراءته الصحيحة لرسائل قواعد الحزب ومطالبها.
ثورة حزبية في صفوف حزب الشعب الجمهوري أشرف عليها رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي كان يطمح لمنافسة أردوغان في معركة الرئاسة مدعوما من قبل ميرال أكشينار زعيمة حزب الجيد فقطع كليتشدار أوغلو الطريق عليه
ذهبت التوقعات كلها باتجاه فوز كليتشدار أوغلو من الجولة الأولى لمعركته مع أوزيل وبفارق كبير. لكن أرقام الصناديق أعلنت تقدم منافسه عليه بفارق 20 صوتا وحاجته إلى صوتين فقط للفوز، أجبرته على البقاء للجولة الثانية. المشهد الأول من نوعه في تاريخ حزب الشعب الجمهوري حيث تطول معركة انتخابات الرئيس وسط منافسة حامية بين الصديقين اللدودين كليتشدار أوغلو وأوزيل.
حاول كليتشدار أوغلو التأثير في قرار المندوبين وهو يتحدث عما قدمه من أجل توحيد المعارضة، وعن محاولات طعنه من الخلف والضرب تحت الحزام وعن خطوات التجديد التي سيطلقها في حال فوزه. لكن حركة التمرد والعصيان كانت أقوى وأكبر من أن تمنحه فرصة البقاء لحقبة جديدة، وحيث خيبة الأمل في صفوف قيادات الحزب والقواعد في ذروتها وهي تستعد لمعركة آذار المقبل موعد الانتخابات المحلية في تركيا.
ثورة حزبية في صفوف حزب الشعب الجمهوري أشرف عليها رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي كان يطمح لمنافسة أردوغان في معركة الرئاسة مدعوما من قبل ميرال أكشينار زعيمة حزب الجيد فقطع كليتشدار أوغلو الطريق عليه. ها هو ينتقم لنفسه من خلال تحريك ورقة أوزيل، الذي هاجم في كلمته أمام قيادات الحزب، خطوات التفرد والاتفاقيات الثنائية السرية التي عقدها كليتشدار أوغلو مع الأحزاب الصغيرة في صفوف المعارضة، وقدم خلالها الكثير من التنازلات والوعود السياسية على حساب حصة ونفوذ حزبه، كان أكثرها خطورة الانفتاح على المعارض القومي المتشدد أوميت أوزداغ.
المندوب القادم من المناطق التركية النائية هو الذي حسم النتيجة في إزاحة كليتشدار أوغلو وإيصال أوزيل. لكن ذلك لم يحل دون الحديث عن المتشابهات وكوميديا التقلبات في الحزب: بولنت أجاويد ينقلب على الرجل الأول عصمت إينونو الذي فتح الطريق أمامه ليكون في المركز الثاني. وهذا ما جرى لاحقا مع أجاويد من قبل دنيز بيكال، ثم مع بيكال من قبل كليتشدار أوغلو، لينتهي الأمر مع مساعده أوزيل الذي انقلب عليه وأبعده عن كرسي رئاسة الحزب.
من هو بروتس حزب الشعب الجمهوري الذي طعن كليتشدار أوغلو من الخلف كما قال ودون أن يذكر اسمه؟ الأصابع موجهة نحو 4 أسماء بالدرجة الأولى: أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول الذي أراد أن يكون هو مرشح المعارضة في معركة الرئاسة فقطع كليتشدار أوغلو الطريق عليه.
منصور يواش رئيس بلدية أنقرة الذي وقف على الحياد في مؤتمر الحزب ولم يساند كيلتشدار أوغلو علنا رغم اختياره له ليترشح إلى منصب رئاسة بلدية العاصمة. أوزغور أوزيل ساعده الأيمن في الحزب والذي فتح هو الطريق أمامه عام 2014 ليبرز ويقوى في موقع القيادة فذهب ليتحالف مع إمام أوغلو في حفر مستنقع الهاوية لرئيسه. وميرال أكشينار زعيمة حزب الجيد اليميني التي عارضت نفوذ كليتشدار أوغلو ومحاولة هيمنته على الطاولة السداسية ولعبت دورا كبيرا في تفكيك وحدة حزب الشعب وقياداته عشية الانتخابات الأخيرة.
لم ينسحب كليتشدار أوغلو وقرر مواصلة المواجهة، فجاءه الرد في جولة الإياب بهزيمة قاسية مع فارق 300 صوت لصالح منافسه هذه المرة. قد يكون ما جرى بين أفضل نماذج الانتقال الديمقراطي الذي ساده الكثير من الشفافية واحترام رغبة المندوبين وقرارهم. وقد تكون عملية التغيير الأخيرة في قيادة الحزب حملت معها فسحة من الأمل في صفوف قواعد الحزب وبقية أحزاب المعارضة. لكن الكثير من الأسئلة تبقى تراوح في مكانها: هل سيكون التغيير في صفوف قيادة حزب الشعب الجمهوري كافيا لتحقيق اختراقات سياسية تفتح الطريق أمام وصوله إلى سدة الحكم التي ينتظرها منذ عقود طويلة؟ وهل يكفي الحديث عن عودة الروح إلى حزب الشعب عبر قيادته الجديدة لقبول احتمال حدوث مفاجآت سياسية كبيرة في جناح المعارضة التركية المفكك والمشرذم؟ وهل ستكون عملية التغيير هذه مقنعة لبقية أحزاب المعارضة خصوصا حزب "إيي" الذي تقوده ميرال أكشينار للعودة إلى طاولة موسعة جديدة في مواجهة أردوغان وشركائه في تحالف الجمهور؟ لا بل هل يطرح أوزيل فكرة التوحد مجددا في صفوف المعارضة والتنسيق مع اليمين القومي والمحافظ بعد تجربة انتهت بالفشل الذريع؟ لا تزيد نسب أصوات حزب الشعب الجمهوري على 28 بالمئة من مجموع أصوات الناخبين الأتراك في أحسن الأحوال. فمع من سيتحالف أوزيل ومن الذي سيثق به بعد تجربة أيار المنصرم مع معارضة فاشلة، تبعثرت قبل أن تخوض المعركة مع أردوغان وحلفائه؟
يغادر كليتشدار أوغلو وفي حلقه غصة عدم زيارة دمشق ولقاء بشار الأسد لبحث الملفات الثنائية المشتركة وإقناعه بتسهيل عودة مئات الآلاف من السوريين إلى بلادهم من دون أن نعرف كيف كان سيفعل ذلك
بين أبرز دروس إزاحة كليتشدار أوغلو:
- لا أحد يستطيع الوقوف في وجه قرار المندوبين في الأحزاب السياسية عندما يسود العمل الديمقراطي الشفاف حتى ولو كانت القيادة الحزبية متمسكة بما تقول وتريد.
- أزاح كليتشدار أوغلو عام 2010 دنيز بيكال في ظروف إستثنائية مكنته من الوصول إلى رئاسة الحزب. أزاحه أوزيل في ظروف إستثنائية صعبة أيضا بعدما كانت القناعة أنه سيبقى على رأس الحزب وأن الأصوات المعارضة لا تزيد على العشرات.
- يغادر كليتشدار أوغلو وفي حلقه غصة عدم زيارة دمشق ولقاء بشار الأسد لبحث الملفات الثنائية المشتركة وإقناعه بتسهيل عودة مئات الآلاف من السوريين إلى بلادهم من دون أن نعرف كيف كان سيفعل ذلك.
لم تسفر هزيمة المعارضة في الانتخابات الأخيرة عن الإطاحة بتحالف الأمة فقط، بل دفعت الأحزاب اليمينية الأخرى للبحث عن فرص التواصل مع حزب العدالة وبحث فرص التنسيق خصوصا من قبل حزب أكشينار اليميني القومي. وهي العقبة الكبرى التي تنتظر أوزيل وهو يحاول لملمة ما تبعثر.