عقب انتهاء الجولات القتالية بين دولة الاحتلال وحركات المقاومة الفلسطينية تبرز إلى العلن تساؤلات واسعة حول كلفة الحرب بين الطرفين، ففي التقارير الإسرائيلية الصادرة عن وزارة الدفاع الإسرائيلية ووزارة المالية مؤشرات حول حقيقة التكاليف التي تكبدتها دولة الاحتلال، كذلك قياس تلك التكاليف لمجموع الأهداف التي تم تحقيقها على أرض الواقع وقراءة في تلك التقارير تساعد المراقب على تشكيل مجموعة من الأسئلة حول حقيقة الأوضاع الاقتصادية التي ستترتب على كيان الاحتلال وحركات المقاومة كذلك حقيقة التكاليف في مختلف الجوانب.
لم تصدر حتى الآن أية تقارير واضحة حول قطاع غزة، فيما يتعلق بأسئلة الحرب وكورونا والحصار وما تكبده القطاع الذي أعلنته تقارير الأمم المتحدة مكانا غير صالح للحياة بحلول عام ٢٠٢٠، فالتقديرات الأولية للخسائر أشارت إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة تسببت بأضرار هائلة تقدر بملايين الدولارات نتيجة الدمار الذي ألحقته آلة الحرب الإسرائيلية في المصانع والشركات والمنشآت.
في التقرير المنشور على موقع الجزيرة في ٢٣ من أيار أكد علي الحايك نائب رئيس الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية أن: "إسرائيل تعمدت خلال الحرب تدمير ما تبقى من مكونات اقتصادية قاومت الانهيار على مدار السنوات الماضية رغم الحروب وعمليات التصعيد والحصار، وهي سياسة إسرائيلية معتادة تستهدف ضرب عصب الحياة في غزة".
تعمدت إسرائيل تدمير ٧٠ منشأة اقتصادية متعددة النشاطات، منها ١٤ مصنعاً كبيراً في المنطقة الممتدة على طول السياج الأمني، كما أوغلت آلة الحرب الإسرائيلية في تدمير عشرات المصانع في القطاع بشكل كلي أو جزئي.
يعاني قطاع غزة في الأساس من مشكلات البطالة وأتت الحرب كي تضم المتضررين من استهداف المنشآت والشركات والمصانع لمجموع العاطلين عن العمل الذين يقدرون بـ ٤٥٠ ألف عاطل عن العمل منهم ٢٠٠ ألف خريج جامعي، وأضافت الحرب لمعاناة الناس في غزة حيث نزح ٧٥ ألف فلسطيني، ويقدر عدد من لجؤوا منهم إلى المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا بـ ٢٨٧٠٠ نازح.
تعد عملية إلحاق الضرر بالمنشآت المدنية سياسة إسرائيلية ممنهجة، تهدف في مجملها لشل قدرة حركات المقاومة على النهوض
يضاف لمجموع الخسائر استهداف المقرات الحكومية والمنشآت العامة كمرافق الخدمات ومقرات الأمن والشرطة والمدارس والمنشآت الزراعية، وشبكة المياه والمساجد والكنائس، والمنشآت الاقتصادية والسياحية وخطوط الكهرباء وتضرر الممتلكات العامة.
تعد عملية إلحاق الضرر بالمنشآت المدنية سياسة إسرائيلية ممنهجة، تهدف في مجملها لشل قدرة حركات المقاومة على النهوض وتكلفتها ثمناً باهظاً في المنشآت حيث يؤثر ذلك على تنميتها لقدرتها العسكرية بشكل سريع بفعل تراكم الضغوط المجتمعية عليها وضغوط إعادة البناء والإعمار.
في تقرير على موقع واينت منشور بتاريخ ١٩ من أيار تمت الإشارة إلى أنه رغم الكلفة العالية التي تكبدها الجانبان إلا أن عملية حارس الأسوار /سيف القدس لم تحقق أياً من الأهداف التي وضعها جيش الاحتلال في بداية عمليات القتال بما فيها نشر حالة من الردع الاستراتيجي أمام حركات المقاومة الفلسطينية، ودفعها لعدم التفكير في الإقبال على مواجهة دولة الاحتلال، وسحب الغطاء الشعبي عنها بسبب تعاظم التكاليف.
لكن على أرض الواقع ما حصل هو العكس، فقد ثبتت المعركة الأخيرة قواعد اشتباك جديدة بين حركات المقاومة الفلسطينية وبين دولة الاحتلال، وعززت مناعة المقاومة أمام ثقافة الهزيمة، وشهدت عمليات المقاومة حالة من الالتفاف الشعبي حولها وتوحيد الهبة الشعبية على امتداد فلسطين التاريخية، وبدأت الحركات الشعبية تطالب بمواجهة مفتوحة مع دولة الاحتلال بدءاً لحسم المواجهة الأخيرة التي تكلف الاحتلال تفكيك نظام الفصل العنصري بالكامل، وهذا ما كان خارج حسابات محافل التقدير الاستراتيجي في كيان الاحتلال.
ثارت على إثر ذلك عاصفة من الجدالات في المؤسسات العسكرية والمالية الإسرائيلية وصعدت أسئلة جدوى المواجهات التي تخوضها دولة الاحتلال، وقوبل شل الحياة الاقتصادية في كيان الاحتلال باعتراضات واسعة، واعتبر الإسرائيليون أن المواجهة لم تلبِ أي هدف من الأهداف وأنهم بالمحصلة سيتكبدون عناء تغطية فاتورة اندفاع نتنياهو بدفع ضرائب أكثر وارتفاع كبير في الأسعار، حيث إن الاقتصاد الإسرائيلي لم يتعافَ بعد من جائحة كورونا، وبسبب المشكلات الحكومية التي بسببها لم يتم إقرار موازنة منذ ما يزيد عن عامين.
تمكنت حركات المقاومة الفلسطينية من تحقيق أهداف عديدة في المواجهة، فإطلاقها لـ (٤٣٦٠) صاروخاً خلال ١١ يوماً فاق ما تم إطلاقه في المواجهة عام ٢٠١٤ خلال ٥٠ يوما، كما زادت مدى إطلاق تلك الصواريخ لـ ٨٠ كم مقابل ٤٠ كم في مواجهة ٢٠١٤، كما كلفت حالة الاشتباك في المدن المختلطة كيان الاحتلال خسائر باهظة، وكلف كل يوم مواجهة الاقتصاد الإسرائيلي ١٢٠ مليون شيكل حسب التقرير الصادر عن مجلة بيزنس.
أما بالنسبة للكلفة العسكرية المباشرة فتقدر كلفة يوم قتال واحد لدى سلاح الطيران بين ٨٠ إلى ١٢٠ مليون شيكل، وكلفة صاروخ اعتراض القبة الحديدية ٥٠ ألف دولار، وحسب الباحثين في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي تراختنبيرغ وفدلون الصادر في ٦ من حزيران الجاري فإن المواجهة الأخيرة تميزت بكثافة الطلعات الجوية حيث وصلت غالباً إلى ١٥٠ طلعة جوية، وقياساً لكثافة ضربات حركات المقاومة تقدر الخسائر في الجانب الإسرائيلي من ٤ إلى ٥ مليارات شيكل.
تقدر كلفة ساعة الطيران الواحدة لطائرة إف.١٥ بـ ٢٠٠٠٠ دولار وطائرات إف.٣٥ بـ ١٨٥٠٠ دولار بينما تكلف طائرات إف.١٦ ٨٠٠٠ دولار، عدا عن كلفة الدبابات والمدفعية وغيرها من المعدات الحربية، كذلك طلبات التعويض لمصلحة الضرائب في كيان الاحتلال التي زادت عن سابقتها حتى بلغت ٥٢٤٥ طلبا، وذلك بسبب قدرات المقاومة العسكرية المتطورة حيث تسببت ضرباتها بأضرار في الجانب الآخر.
وتسببت المواجهة بخسائر نفسية فادحة في الجانب الإسرائيلي الذي تعاني مؤسساته العسكرية والسياسية من حالة عدم استقرار
لم تنتهِ كلفة المواجهة عند النفقات العسكرية والاقتصادية وأضرار السوق والسياحة، لكنها ضربت عميقاً في النسيج الاقتصادي داخل المدن المختلطة عندما تضامن الداخل الفلسطيني مع إضراب الكرامة، وتسببت المواجهة بخسائر نفسية فادحة في الجانب الإسرائيلي الذي تعاني مؤسساته العسكرية والسياسية من حالة عدم استقرار، وتم تداول العديد من المقابلات مع الهاربين إلى حيث أتوا من المستوطنين الإسرائيليين حيث أشاروا إلى أن دولة الاحتلال لم تستطع تأمين الحماية لهم، وأنهم ليسوا على استعداد للبقاء في كيان الاحتلال بسبب هشاشته الأمنية في محيط من العداء.
انتشرت هذه المعطيات في التقارير الصادرة عن المؤسسة العسكرية والمالية الإسرائيلية في الوقت الذي صعدت إلى الواجهة تساؤلات حول جدوى المقاومة وحول ما حققته من أهداف، وشهدت الساحة السياسية الرسمية العربية حالة قلق من تنامي قدرات المقاومة، كذلك سال حبر كثير حول حركات المقاومة الفلسطينية حيث تم توجيه اتهامات مختلفة لها لم يكن آخرها اتهام بأنها ذراع إيران العسكري في مواجهة دولة الاحتلال.
حاولت أطراف عديدة تجريد حركات المقاومة من أي منجز لها بالمواجهة، كذلك حاولت إفراغ عملية كسرها لإرادة الاحتلال في كثير من المواطن من معناها ومدلولاتها، في الوقت التي خرجت فيها تقارير المؤسسات الإسرائيلية لتتحدث بوضوح حول الأضرار والخسائر والتحولات بعد المواجهة الأخيرة، حيث تحدثت بوضوح عن عدم تمكن المؤسسة العسكرية لدولة الاحتلال من إتمام أي من أهدافها.
تبعاً لذلك يجري الحديث الآن عن ميزانيات إعادة إعمار غزة، وخرجت تنديدات واضحة من قبل سلطة أوسلو حول تصريحات مجتمع المانحين بأنه سيشكل لجانا مختصة لإعادة الإعمار بعيداً عن أن تقدم تلك الأموال للسلطة، مما شكل حالة استنكار واسعة في أطراف من القيادات الفلسطينية حول هذا القرار الذي أتى بسبب فقدان ثقة مجتمع المانحين بالسلطة ونزاهتها في إدارة عمليات إعادة الإعمار.
بالنتيجة تظل المواجهات القتالية التي انطلقت بين دولة الاحتلال وحركات المقاومة الفلسطينية على أرض فلسطين علامة تحول فارقة في قدرات حركات المقاومة الفلسطينية وقدرتها على التحدي والمناورة وتغيير قواعد الاشتباك مع الاحتلال على أسس مختلفة، حيث مثلت عمليات المقاومة من نقاط انطلاق في المحيط العربي حالة تشويش على الحركات المقاومة الفلسطينية التي تعرضت لضغوط من الدول العربية التي استضافتها في السابق، والآن تكمن قوة حركات المقاومة الفلسطينية بقدرتها على خوض المواجهات مع كيان الاحتلال من أرضها وتغييرها لقواعد الاشتباك وفق فضائها دون التعرض لضغوطات الدول المستضيفة لها في السابق.