أكدت صحيفة هآرتس الإسرائيلية الجمعة - 19 مارس/ آذار - التقرير الذي كانت قد نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية قبل ذلك بأيام - 11 آذار – وأفاد بوقوع ما يمكن تسميته بحرب ناقلات بحرية غير معلنة بين إسرائيل وإيران خلال الأعوام الماضية.
هآرتس قالت في تقرير لمحلل الشؤون العسكرية المخضرم عاموس هرئيل إن إسرائيل استهدفت عشرات الناقلات الإيرانية خلال العامين الماضيين 2019 و2020 – يتم الحديث عن 12 ناقلة على الأقل - محمّلة بشحنات النفط الإيراني المهرب في منطقة بحرية شاسعة جداً تمتد من الخليج العربي والبحر الأحمر جنوباً إلى مضيق جبل طارق شمالاً مرورا طبعاً بقناة السويس والبحر المتوسط، وإن الخسائر الإيرانية هي بمليارات الدولارات على افتراض أن حمولة كل سفينة تبلغ مليون برميل نفط يقدّر ثمنها بـ50 مليون دولار على الأقل.
حرصت إسرائيل على عدم إغراق الناقلات الإيرانية أو تدميرها وإيقاع خسائر في الأرواح، واكتفت بإعطابها فقط
بتفصيل أكثر وحسب ما جاء في الصحيفة الإسرائيلية وقبل ذلك الأميركية فقد استخدمت إيران مساراً بحرياً طويلاً جداً ونائياً يمتد من الخليج العربي إلى رأس الرجاء الصالح ومضيق جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط كله وصولاً إلى ميناء بانياس شمال سوريا بدلاً من الطريق القصير الممتد من البحر الأحمر عبر قناة السويس ثم شرق المتوسط إلى بانياس مباشرة وذلك لتفادي العقوبات الأميركية والدولية وعيون أجهزة الاستخبارات الإقليمية من أجل إيصال النفط الإيراني المهرّب إلى رجال أعمال مقربين من نظام الأسد مع تسليم العائدات بالعملة الصعبة إلى ذراعها الإقليمي المركزي حزب الله في لبنان.
حسب هآرتس ووول ستريت جورنال أيضاً فقد حرصت إسرائيل على عدم إغراق الناقلات الإيرانية أو تدميرها وإيقاع خسائر في الأرواح، واكتفت بإعطابها فقط من أجل تشويش وعرقلة حركتها وإجبارها على العودة إلى جنوب إيران من "حيث أتت"، مع احتمال فقدان جزء من حمولة النفط وحتى حصول تلوّث بيئي كما حصل مع السفينة الإيرانية التي تم استهدافها قبالة الشواطئ اللبنانية الشهر الماضي، علماً أنها كانت متجهة إلى بانياس بسوريا أيضاً بنفس الآلية ولنفس الهدف أو الأهداف للدقة.
من جهتها قدمت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية - الجمعة 26 مارس/ آذار - تأكيدات لما كتبته هآرتس أيضاً عن استهداف سفن - اثنتين على الأقل - تحمل شحنات أسلحة إيرانية لحزب الله، كما معدات أخرى مخصصة لإنجاز عملية التموضع الاستراتيجي في سوريا هرباً من الغارات الإسرائيلية المكثفة ضد أهداف ومواقع لإيران وميليشياتها في محيط مطار دمشق حيث تحط الطائرات المحمّلة بالعتاد العسكري القادمة من طهران، كما لتفادي المرور عبر الطريق البري المكشوف أيضاً لإسرائيل والممتد من إيران إلى سوريا ولبنان مروراً بالعراق.
لقراءة المعطيات السابقة ووضعها في سياقها التاريخي السياسي والجيو سياسي وحتى الاقتصادي لا بد من الإشارة إلى معطيين مهمين أولهما أن كلمة حرب مجازية وغير دقيقة تماماً، وكما الغارات في سوريا والعراق نتحدث عن ضربات وهجمات إسرائيلية مستمرة دون ردّ إيراني أي أننا في الحقيقة أمام حرب من جانب واحد تقريباً.
وثانيهما أن الحرب تجري دون إعلان رسمي من طرفيها "الفاعل والمفعول به"، بل إن المرة الوحيدة التي أعلنت فيها إيران عن استهداف سفينة تابعة لها بالبحر الأحمر ترافقت مع اتهام الرياض بالمسؤولية على اعتبار أن الاستهداف حصل في المياه الدولية قبالة السواحل السعودية..
أما الصمت الإيراني عن الهجمات طوال سنوات رغم تأكد طهران تماماً من الأيادي الإسرائيلية خلفها فيعود إلى تفادي الإحراج العلني، وبالتالي الاضطرار للرد ما يفسر من جهة أخرى عدم الإعلان الاسرائيلي عن الهجمات ولو من باب التبجح، وهي نفس السياسىة التي تتبعها تل أبيب في سوريا والمنطقة بشكل عام أيضاً، ولا يقل عن ذلك أهمية عدم رغبة القيادة المتنفذة في طهران في زيادة غضب الجمهور الإيراني ضدها من خلال الاعتراف بإهدار مليارات الدولارات على أطماع ومغامرات بالخارج بينما الاقتصاد الإيراني يلامس فعلاً حدّ الانهيار.
إيران وكعادتها احتفظت بحق الرد في المكان والزمان المناسبين دون إعلان وحتى دون بروباغندا بحرية -مياغون فون - في تبني لما يصفونه بالصبر الاستراتيجي، وعندما ردت فعلت ذلك بشكل خجول جداً وأقرب إلى طريقتها الدعائية المعتادة عبر استهداف سفينة بضائع فارغة يملكها رجل أعمال إسرائيلي غير مسجلة في الدولة العبرية، وإنما في جزر الباهاما، وتعمل أساساً في نقل السيارات بين شرق آسيا ودول الخليج العربي، ويجري الحديث عن استهداف سفينة إسرائيلية أخرى تعمل على خط تنزانيا -الهند وأيضاً دون إيقاع أضرار كبيرة بشرية أو حتى مادية.
وفيما يخص الأهداف الإيرانية من خط التهريب البحري الطويل وخلق اقتصاد موازٍ، كما حصل في الفترة من 2005 إلى 2015 – تكبدت إيران خلالها خسائر اقتصادية بتريليون دولار على الأقل - فتتمثل بالالتفاف على العقوبات الأميركية والدولية، والحصول على العملة الصعبة لمساعدة النظام على البقاء في الداخل، كما تمويل السياسات الإقليمية المدمرة في الخارج بما في ذلك تقوية الذراع الإقليمي المركزي حزب الله، وفي السياق طبعاً مواصلة العملية اليائسة والفاشلة للتموضع الاستراتيجي في سوريا.
ثمة هدف إيراني جانبي يتمثل بدعم نظام الأسد اقتصادياً من خلال طبقة رجال الأعمال المحيطة به عبر بيعهم نفطاً بسعر زهيد والحصول على العملة الصعبة في لبنان الذي يستخدم كرئة لتنفس النظام وحلفائه سياسياً واقتصادياً أيضاً.
حرب الناقلات السالفة الذكر بدأت منذ سنتين فقط أي بالتزامن مع انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي
بدا لافتاً جداً أيضاً استخدام إيران لميناء بانياس لا اللاذقية ولا حتى طرطوس، علماً أنه ميناء صغير نسبياً بعيداً عن الأعين والحركة التجارية الكثيفة، ولا يقل عن ذلك أهمية هيمنة روسيا الكاملة على اللاذقية ومحيطها ورفضها لحضور إيران هناك أو حمايتها من الضربات الإسرائيلية البرية والبحرية في سوريا ومحيطها.
تجب الإشارة إلى أن حرب الناقلات السالفة الذكر بدأت منذ سنتين فقط أي بالتزامن مع انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي وفرض إدارة دونالد ترامب المنصرفة عقوبات صارمة ضد إيران رغم أن هذه الأخيرة تدخلت في سوريا دعماً لنظام الأسد منذ عشر سنوات تقريباً ولم تستهدفها إسرائيل من قريب أو بعيد أو تعتبر نفسها في حالة حرب مباشرة معها، بل إنها أيّدت بقاء نظام الأسد بشكل متواصل واستراتيجي قبل الثورة وبعدها رغم أن ذلك يعد أيضاً هدفاً مركزياً لإيران وحلفائها.
في السياق الأميركي كان لافتاً أن الكشف عن الحرب الإسرائيلية ضد الناقلات الإيرانية جاء من طرف صحيفة أميركية ونقلاً عن مسؤولين أميركيين وإقليميين، وكما قال مصدر دبلوماسي إسرائيلي لصحيفة يديعوت أحرونوت – الجمعة 19 مارس - فإنه مستعد للمراهنة بمبلغ كبير على أن التسريب جاء من قبل إدارة جو بايدن بغرض الضغط لإيقاف الحرب الإسرائيلية بعدما صمتت، وحتى دعمتها إدارة ترامب السابقة. الردّ الإيراني الخجول مرتبط أيضاً بإدارة جو بايدن اللاهثة والزاحفة للاتفاق النووي سيئ الصيت وفق المفاهيم والأسس الفكرية السياسية التي اتبعتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، والذي استعان بايدن بمعظم أركانها في إدارته الجديدة.
في الأخير لا بد من التأكيد أيضاً على معطيين مهمين أولهما أن التسريب الأميركي سعى لإحراج الطرفين من أجل إيقاف الحرب التي ستستمر بالقصور الذاتي ولو على المدى المنظور كونها ترتبط مباشرة بالمفاوضات الأميركية الإيرانية السرية والعلنية من أجل إيجاد طريقة للعودة إلى الاتفاق النووي من جديد.
أما المعطى الثاني فيفيد بأن الاعتداءات الإسرائيلية تؤكد طبيعتها ككيان عدواني ولكنها لا تبرئ إيران أو تحولها إلى ضحية، مع الانتباه إلى أن هذه الأخيرة دولة طبيعية في المنطقة تنتهي المشاكل معها بمجرد وقف تدخلاتها وانسحابها من سوريا والدول العربية. أما إسرائيل فدولة استعمارية غير طبيعية ولا سلام أو أمن واستقرار في المنطقة إلا بزوالها نهائياً.