حرب إثبات الذات عند اللاجئين السوريين

2024.06.23 | 06:15 دمشق

آخر تحديث: 23.06.2024 | 06:15 دمشق

Syrian refugees in the Netherlands
+A
حجم الخط
-A

لكل سوري بعد رحلة اللجوء سردية خاصة، تتمثل: ماذا حقق؟ وكيف بدأ حياته ثانية؟ وأين حطت به الرحال؟

حين تستمع إلى سرديات السوريين عندما يلتقون بعد فراق سنوات، تسمع أغرب القصص وأعجبها حول البدايات الجديدة الممزوجة بالمرارة والتحولات الكبيرة، إذ إن هناك قلة قليلة بقيت على ما كانت عليه من قبل مهنياً أو على مستوى الاهتمامات أو الدراسة. وتجد كثيرين آخرين مشوا في خيارات غير متوقعة أو مألوفة أو بعيدة عما كانوا عليه من قبل. كأن اللجوء كان فرصة جديدة لحياة أخرى، وحالة كثيرين أقرب لحالة ما قبل الكهف وما بعده.

البدايات الجديدة ليست أمراً سهلاً، وهناك كثير من الأشخاص الذين تلتقي فيهم بإسطنبول خاصة يعيشون حياتهم كأنهم لم يخرجوا من سوريا، ومنهم من ابتعدتَ عنه عشر سنوات لكنه كما عهدته: سهر وسمر في الليل ونوم في النهار مثلاً. أو هو كما عهدته يتابع أخبار الجميع ويعيش على هامش النميمة. ولعل مما ساعد هؤلاء على أن يبقوا على سيرتهم الأولى ولا يحدثون تغييراً كبيراً في مساراتهم أن الدولة التي يعيشون بها، لا تتدخل بتفاصيلهم الحياتية، وفي الوقت نفسه لا تأخذ بيدهم نحو بداية جديدة، على العكس من الدولة الأوروبية، دولة الرعاية الاجتماعية، التي ترى في كل من يدخل أراضيها طاقة يجب توظيفها في مسار ما كي لا تتحول تلك الطاقة إلى عبء على بقية المواطنين وعلى الدولة ذاتها ومنظوماتها!

يستغرب الكثير من السوريين حين يبدؤون حياتهم في هولندا أن هناك من يقول لهم: عليكم أن تأخذوا قسطاً من الراحة قبل البداية الجديدة كي ترتاحوا فأنتم قادمون من بلد فيه حرب، وليس من الطبيعي ألا تكون قد أثرت عليكم أو كسرتكم أو خيبت أملكم أو جعلتكم تمرون بحالة صعبة!

المتحمسون من السوريين للبدايات الجديدة في بلاد اللجوء لا يعجبهم هذا الخطاب، وينظرون شزراً نحو الموظف المسؤول، ويعتقدون أنه يريد أن يحبط همتهم، غير أن الموظف المعني ينظر إلى الأمور نظرة إنسانية. وأنه لا بد للمريض من فترة نقاهة بعد العملية، إلا أن الكثير من السوريين يمشون في طريق الإنكار ويرون في تشبيههم بالمرضى إساءة شخصية لهم، إلا أن الموظف الذي لديه خلفية الحرب العالمية الثانية يرى أنه من الطبيعي أن يرتاح الناس قليلاً بعد الفقد والخسارات.

لا يريد الكثير من السوريين الاعتراف بأنهم خسروا أو انكسروا أو مرضوا، يقودهم شعور الإنكار والتكبر على الألم والمكابرة والصبر والرغبة بالانتصار وإثبات الذات!

يستغرب الكثير من السوريين حين يبدؤون حياتهم في هولندا أن هناك من يقول لهم: عليكم أن تأخذوا قسطاً من الراحة قبل البداية الجديدة كي ترتاحوا فأنتم قادمون من بلد فيه حرب

الإشكال الكبير أن عدم المرور في فترة نقاهة بعد العمليات النفسية المؤلمة الكثيرة التي مر بها كل سوري اليوم يجعله كائناً لديه رغبة في البداية الجديدة والكثير من التحدي؛ غير أن روحه منهكة ومتعبة ومجروحة، وهذه كلها تجعل ردود أفعاله أو استجاباته ليست كما يجب. أي أن كمّ التحدي الموجود في داخله والرغبة بإثبات الذات قد لا تتلاءم مع إمكاناته أو قدراته أو معارفه وتجاربه، مما يجعله كائناً قد ينكسر بسهولة نتيجة عدم الراحة وعدم المواءمة مع نمط الحياة الجديدة.

على سبيل المثال؛ تجد الكثير من المشاريع السورية التي قامت وانكسرت في الفترة الأخيرة في هولندا لأنه لم يكن لديها أي خطة أو دراسة جدوى أو قراءة أو معرفة للسوق ومتغيراته، والأمثلة كثيرة:

  • شخص يفتح محل حلويات سورية في حارة لا يوجد فيها الكثير من السوريين، وسط شريحة مستهلكين لا تعرف الحلويات السورية، وقد لا تستسيغ كمّ السكر الموجود فيها والفستق الحلبي، ولذلك قد يضطر إلى إغلاق محله خلال فترة قصيرة!
  • شخص آخر يفتتح محلاً للشاورما بنكهة سورية، لكنه يتفاجأ أن محله لم ينجح، والسبب بسيط أن النكهة التي يحبها السوريون في الشاورما من هيل وسواه من البهارات و"السقسقة" قد لا تحبها الشعوب الأخرى، إضافة إلى أن الشاورما إن لم تكن طازجة وحولها مجموعة من المنتظرين والنار تشتعل ويكون سيخ الشاورما على بوابة المحل، فإنها تكون قد فقدت طقوسها، أي أن جو الشاورما غير موجود، لدى دولة لديها مواعيد ثابتة لتناول الطعام، ولا يأكل شعبها الطعام واقفاً بالمطلق! بل يرون فيمن يأكل الطعام خارج الأوقات الطبيعية وهي بين الساعة الثانية عشرة والواحدة ظهراً أو السادسة والسابعة مساء خروجاً عن المألوف، لذلك صارت الشاورما ها هنا ودون طقوس وبات أكلها أقرب للعقوبة! على العكس من أجواء إسطنبول حيث الحياة تتسم بأنها غير منتظمة، وكذلك وجود كم كبير من مستهلكيها!
  • شخص يفتح محلاً لبيع الذهب والمجوهرات، على أمل أن يغصّ بالزبائن، ولم لا يكون ذلك! ولدينا مئة وخمسون ألف سوري، لكن لم ينتبه صاحب المحل أن العادات تغيرت، فبدلاً من هدايا الذهب صارت الهدية قسيمة شرائية من محل ألبسة، أو قسيمة شرائية لشراء ذهب من محلات دولية لها فروع في بلدان عدة، لأن المستهلك اليوم صار يفضل أن يكون لديه أكثر من خيار. ذهب زمان مفاجآت الهدايا، صرنا في زمان الاكتفاء، وباتت الهدية تعني أن تمنح من تحتفي به فرصة أن يختار هو ذاته، وما عليك إلا أن تعبر عن ذلك بفتح الإمكانية من خلال سؤاله، كما يحدث مع أولادنا وتجاربهم مع رفاقهم، عن الأشياء التي يتمنى أن تكون هدايا له في مناسبته، ويقوم الأصدقاء أو الأهل بشراء بعضها.

من جهة أخرى لم يعد الاستثمار الأمثل لدى كثيرين في تخزين الذهب أو أن تلبسه هو الأفضل والأوحد والأكثر شيوعاً، بل دخل الاستثمار في الأسهم، وقد مر معي في الفترة الأخيرة الأنماط التالية من الهدايا كبديل عن شراء الذهب:

 أسهم في شركة أبل أو أمازون، وقسائم شرائية، ورحلة سياحية لعدد من الأيام، وبطاقات طائرة، واشتراك بناد ترفيهي لمدة سنة، بطاقة لابتسامة هوليود عند عيادة أسنان، بطاقة بقيمة ما لعيادة تجميل..

وبالتالي فإن صديقنا بائع الذهب اضطر إلى أن يغلق مشروعه أو يعمل في تحويل العملات أو الذهب المستعمل!

البدايات الجديدة والتحدي ومحاولة إثبات الذات حق لكل إنسان، لأنه يضمر في داخله رغبة بالوجود والتميز ومحاولة القول: أنا هنا، ولم أنته!

غير أن الرأفة بالذات والبحث عن ممكنات السعادة وراحة البال وأخذ قسط من الهدوء بعد كل تلك المعارك الخاسرة كذلك حق مكتسب لكل إنسان مر بتجربة الحرب واللجوء!

يقابل هذا النوع من "ملوك التحدي" لإثبات الذات شريحة كبيرة اسمها شريحة اللامبالين ومحاولي استثمار ممكنات القانون الأوروبي الاجتماعي كلها عبر الاحتيال أو تضييع الوقت أو ادعاء المرض النفسي..!

وهناك شريحة أخرى ثالثة تعاود بدء حياتها من جديد بهدوء وصبر وتنمية موارد ذاتية واشتغال على السيرة الذاتية، واتباع دورات تدريبية..

ثمة قصص وسرديات مختلفة تكشف عن القدرات العجيبة للإنسان عامة وكيفية تعامله مع الظروف عبر ردود أفعال مختلفة وتغير مفاهيمه وقناعاته وتصوراته، بحيث صارت قصة كل لاجئ مادة أولية لسردية مؤثرة ومؤلمة وعميقة، فيها من النجاح قدر ما فيها من الانكسار، وفيها من الماضي قدر ما فيها من الحاضر والمستقبل، وفيها من الحنين والاغتراب قدر ما فيها من الاندماج والتخطي والاستغناء بما أن الاستغناء وفقاً للحكمة: سيد الفضائل، فهل جربته يوماً؟ ستجد حياتك قد انقلبت نحو الإيجاب، والاستغناء استغناءان: استغناء عما تكره واستغناء عما تحب وفي كل منهما مشقة!