تستمر تحركات الشعب السوري تباعًا في الشمال السوري، كما في جنوبه، وتتزايد حالة الانتفاض الممكنة والمطلوبة باستمرار، في محاولة جادة لإنجاز ما عجزت عن تحقيقه كل قوى المعارضة السورية حتى الآن.
يُعتقد أن اعتصام الكرامة في الشمال السوري، الذي بدأ منذ أوائل شهر تموز/ يوليو 2024، ما زال يسير بنفس الزخم، ويحمل في طياته إمكانية الاستمرار وتحقيق الكثير، ضمن أوضاع من الجمود في الملف السوري، التي تراوح مكانها منذ فترة طويلة، وتشير معطياتها إلى تكلس وصدأ آني يتمثل في عدم القدرة على العطاء. يأتي ذلك في سياق جملة من التحركات والمتغيرات الإقليمية والدولية، التي من المفترض أن تؤثر مباشرة وبشكل دراماتيكي على مجمل أوضاع المنطقة، ومنها سوريا بالضرورة، وخاصة ما يجري الآن في لبنان وقطاع غزة، وحالة التهديد المستمرة للنظام السوري لجر المنطقة بأكملها إلى واقع صعب. وما زال السوريون يأملون أن يترك ذلك أثرًا إيجابيًا على واقعهم وقضيتهم، في ظل حالة الجمود التي أصابت الثورة السورية ومساراتها الراكدة.
إن إعادة إنتاج مسارات جديدة في الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة، ما زالت ناجزة، واحتمالات بقائها وتجاوزها للأمراض التي اعترضت مسيرة الثورة هي قضية مهمة.
وليس من المستبعد أن يؤدي ما يجري في الإقليم يوميًا إلى حصول متغيرات كبيرة في المسألة السورية، وإن كنت من الذين ما زالوا لا يعتقدون أبدًا أن نظام بشار الأسد، الذي كان وما زال يحمي حدود إسرائيل وأمنها القومي كما يقال، منذ توقيع فض الاشتباك من قبل حافظ الأسد عام 1974، سيدخل في حرب مباشرة مع الكيان الصهيوني مهما استمرت التحرشات العسكرية به وبنظامه، وقصف غير مكان من الجغرافيا السورية. بل هو مستمر في دوره الوظيفي لحماية أمن إسرائيل، والبقاء ضمن حالة المسكوت عنه، وعن نظامه الفاسد، الذي يحظى برضا إسرائيلي وأميركي، بل وغربي أيضًا.
لكن اعتصام الكرامة في الشمال السوري اليوم، المنطلق قبل هذه التوقعات وهذه الاحتمالات، ما زال يعمل بشكل جدي على إنجاز مسألة سد الفراغ وتعويض السوريين عن كل ما لاقوه من ترهل وفشل، إبان تربع المعارضة السورية الرسمية على ذؤابة العمل السياسي اليومي، ضمن حالة من الفشل المستمر لا تخفى على أحد، وغير قادرة على مواكبة مستوى التضحيات الكبرى وذات القيمة الوطنية العالية، التي سبق أن قدمها السوريون على مذبح الحرية والكرامة. ومن ثم التفكير جديًا خارج الصندوق عمليًا، حيث يعمل ناشطو الحراك واعتصام الكرامة باستمرار على ذلك، وهو في الواقع يشير بوضوح إلى ما يلي:
-
إن إمكانية التغيير لدى الشارع السوري الثوري ما زالت ممكنة، واحتمالات تجاوز الأخطاء ما زالت في متناول من يريد العمل والإنجاز الحقيقي.
-
كما أن التشبيك مع حراك السويداء وباقي الساحات السورية بات مسألة ضرورية وملحة، وهي بالفعل تشكل بيضة القبان في العمل الوطني الجاد. ولعل ما حصل مؤخرًا من الاشتغال فعليًا على إنجاز وصياغة أوراق مشتركة بين الحراكين في الشمال والسويداء، يعطي الأمل بإمكانية الوصول إلى معطى تغييري جديد وقادر على الإنجاز.
-
التفكير سياسيًا وبهدوء وعقلانية وبدون عواطف أو انفعالات، وإعادة النظر ببعض المسلمات التي تمسك بها البعض سابقًا، والعمل على إطلاق المبادرات المستقلة، من الممكن أن ينجز الكثير، ويجد من يدعمه سوريًا وشعبيًا على طول المدى.
-
كذلك فإن إعادة إنتاج مسارات جديدة في الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة، ما زالت ناجزة، واحتمالات بقائها وتجاوزها للأمراض التي اعترضت مسيرة الثورة هي قضية مهمة ومدركة من قبل الجميع كما يفترض.
-
إن العملية الانتخابية المتبعة من قبل اعتصام الكرامة تشكل معطًى ديمقراطيًا وتجاوزًا موضوعيًا لكل عتبات العمل الوطني السابقة بدون تأثير من أحد، ولا بد أنها باتت متغيرًا جديدًا وجديًا يريده الشعب السوري بكليته وعبر معظم ألوان الطيف السياسي والإثني.
-
كذلك فإن التركيز على انتخاب ناشطي الداخل فقط، في هذه المرحلة، دون الاعتماد على تشكيلات الخارج، يعتبر خطوة في الطريق الصحيح، ومن الممكن أن يعطي الكثير من العمل الوطني الجاد.
-
كذلك فإن عدم الاعتماد على الخارج الإقليمي والدولي، الذي سبق أن اعتمدت عليه قوى المعارضة الرسمية السورية في معظمها، قد يكون العامل الحاسم في الخروج من عنق الزجاجة والانطلاق بشكل أفضل.
يبدو أن الانضمام والالتحاق بهمة ونشاط إلى حراك واعتصام الكرامة ما زال قضية مميزة وخطوة حقيقية في مسيرة الثورة السورية، يُؤمل منها أن تعطي الكثير وتحرك المياه الراكدة.
ولعل تسليط الضوء اليوم على ما يجري في الشمال السوري، وعدم الانجرار إلى حيثيات أخرى مناهضة للحراك، تحت دعاوى شتى، أو محاصرة اعتصام الشمال غير المفهومة وغير المبررة، يعطي الأمل بتحقيق الكثير، في وقت تسلل فيه اليأس إلى العديد من منحنيات العمل الوطني السوري، بعد أن عجز الجميع بلا استثناء عن الوصول إلى تفاهمات أو توافقات وطنية. كما أن العبث في منحنيات واقع عاجز حتى الآن عن الخروج بصياغة وطنية حقيقية لإنجاز العقد الاجتماعي الوطني السوري المفقود، والذي لا بد له من الخروج إلى النور من أجل أي تفاهم وطني ديمقراطي قادم.
ويرى كثير من المتابعين للوضع السوري أن حيز الاشتغال الوطني ودينامياته الواضحة في حراك الكرامة في الشمال السوري وأيضًا في الجنوب، أي في جبل العرب والسويداء، بات معطًى جديدًا لا يجوز القفز فوقه، بل من الضروري أن يؤسس عليه وطنيًا سوريًا وموضوعيًا لتحقيق ما عجزت المعارضة السورية الرسمية عن تحقيقه.
ويبدو أن الانضمام والالتحاق بهمة ونشاط إلى حراك واعتصام الكرامة ما زال قضية مميزة وخطوة حقيقية في مسيرة الثورة السورية، يُؤمل منها أن تعطي الكثير وتحرك المياه الراكدة، وتكون ردًا موضوعيًا ووطنيًا على كل الدعوات اليائسة التي تريد إهالة التراب على القضية الوطنية السورية، أو الاستسلام لآلة القمع والقتل الأسدية المتواصلة.