قال الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه إن "النوابغ يموتون شباباً لأنهم طيبون أكثر مما تستطيع الأرض تحمله".
وقد صدّق الفنان والمخرج السوري حاتم علي على قول "نيتشه" راحلاً في تغريبته عن 58 عاماً دون أن يتم كل أحلامه وبعض أحلامنا، ممضياً نحو 36 ربيعاً منها في العمل الفني من الكتابة القصصية والمسرحية إلى التمثيل وصولاً للقمة في عالم الإخراج، واضعاً بصمة يبدو أن التاريخ لن ينفك منها.
مبدعون عرب وعالميون رحلوا مبكراً، وقد شغلوا الناس في معظم سنوات عطائهم التي لم تدم طويلاً، كأمل دنقل وأبي القاسم الشابي وبدر شاكر السياب، وقديماً امرؤ القيس وطرفة بن العبد، وحتى عالمياً "إدغار آلان وفان جوخ وفرانز كافكا وألبير كامي وغارسيا لوركا".
الموت المبكر للمبدعين يحمل في حيثياته الكثير من الأسى، لأن النوابغ - وهم قلة - يعطون أفضل ما عندهم في سنوات قليلة مقارنة بأعمارهم، وهذا ما فعله حاتم علي في أكثر عقدين من العمل المميز والفريد.
ولعل المرثيات ورسائل الوداع الحزينة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي عربياً تحكي لنا مناقب حاتم علي، وتصف استثنائية قلما تتكرر عن سوري غادر بلاده التي يكسوها الاستبداد ليعود ملفوفاً في كفنه.
ابن المخيم
حاتم علي الفتى الذي نزح مع أهله من "الجولان السوري المحتل" إلى حافة مخيم اليرموك جنوب دمشق، لينضم النازح السوري إلى اللاجئ الفلسطيني في ملهاة ومأساة إنسانية مشتركة، زرعت لديه أولى نقاط الإبداع في تجاوز لضيق المكان والزمان، وواقع مليء بالانكسارات والنكسات.
كمعظم الملهمين عاش حاتم طفولة صعبة بمنطقة عشوائية على هامش العالم، رافقها خجل شديد وعزلة بدون أصدقاء أو حياة اجتماعية - كما يحكي عن نفسه - دفعه ذلك لبناء عوالم شديدة الخصوصية في خيالاته، رويداً رويداً تخلص من الخجل، إلا أن عادة بناء الحلم والاستغراق فيه استمرت إلى يومه الأخير.
بدأ حاتم من الصفر تقريباً، في الثامنة عشرة من عمره، منطلقاً بهوايته إلى المسرح مع مجموعة من الحالمين بالمخيمات لصيقاً بالفنان الفلسطيني زيناتي قدسية بأفكار وهموم متشابهة، وفقر مدقع لا يغطي ثمن علب السجائر أحياناً، سائراً بخطىً واثقة نحو بناء إمبراطورية حقيقية في الدراما السورية والعربية، ليكون واحداً من بين من أخرجها من قمقمها، وفرد لها مساحات تتوهج مع التاريخ في محاكاة غنية وساحرة.
انضم إلى المعهد العالي للفنون المسرحية ليحترف ثم بدأت حياته الفنية ممثلاً مع المخرج هيثم حقي في مسلسل دائرة النار عام 1988، ثم توالت مشاركاته في الأعمال الدرامية التي جسد شخصيات مختلفة، تتنوع بين الأدوار التاريخية والبدوية إلى الشخصيات المعاصرة بأنماط متعددة.
توجه إلى الإخراج التلفزيوني في منتصف التسعينات، حيث قدم عدداً كبيراً من الأفلام التلفزيونية الروائية الطويلة وعدداً من المسلسلات مثل "فارس في المدينة"، و"سفر"، و"سلسلة مرايا (98 -99)"، ثم "الفصول الأربعة"، والذي كان بمثابة النقلة النوعية الأولى لحاتم في مسلسل درامي عائلي قيمي بقصة شعبية لا تُمل، ما زالت تُعاد وتنتشر إلى يومنا هذا.
حتى تلك الفترة لم يكن حاتم علي سوى مخرج شاب في وسط فني فرصهُ نادرة، والصعود فيه شاق بظل أدوات وموارد قليلة.
السنوات التالية كشفت أسلوباً مغايراً لحاتم في اختيار فريق كل مسلسل، وخاصة أولئك الوجوه الشابة الجديدة التي عول عليها في بداياته الإخراجية وبداياتهم الفنية، ليجعل منهم نجوم الصف الأول في الدراما السورية والعربية على السواء.
وانفتح المخرج السوري الصاعد على دول المغرب العربي مستعيناً بممثلين من تلك البلاد بحالة جديدة ولافتة، كما صور العديد من المشاهد الأندلسية على أراضيها لاقترابها من طبيعة الأندلس، مغيراً وجه الدراما التاريخية العربية من الاستديوهات المغلقة إلى الفضاء المفتوح.
مُحاكاة التاريخ
ومن فصول أربعة متقلبة وغنية؛ فيها اختلاف واجتماع، حب وافتراق، حياة دافئة وأخرى باردة، مجتمع يسرد يومياته وهمومه، إلى صحراء بعيدة؛ إذ الطبول تقرع والأسياف تصول، حمل حاتم كاميرته في "الزير سالم" بنص بديع للكاتب السوري ممدوح عدوان، ليعيد ثقة المشاهد العربي بالمسلسلات التاريخية بعد نفوره.
وبعد أن أثبت حضوره في إنجاز أول عمل تاريخي، عقد شراكته الطويلة مع الكاتب الفلسطيني البارز وليد سيف، الذي يكتب التاريخ كقصيدة طويلة تعيشها لحظة بلحظة، ويخلق شخصيات تعيش معنا في حواراتنا اليومية، نفذها حاتم علي برؤيته الخاصة، وأعاد محاكاة التاريخ بلحم ودم، ليوقع أولى المسلسلات في "صلاح الدين الأيوبي"، كقصة ملحمية لشخصية عظيمة قدمت كثيراً إلا أنها خُلدت فنياً بأسلوبه.
أما ثلاثية الأندلس التي انطلقت مع "صقر قريش" حيث سقوط الدولة الأموية في المشرق وقيامها في المغرب على يد عبد الرحمن الداخل، ثم "ربيع قرطبة" عصر الصعود الذهبي وارتقاء الملك المنصور محمد بن أبي عامر لسدة النسر، ليختم السلسلة بـ "ملوك الطوائف" حيث تفترق الأندلس بعد قوة ومجد، ليذكرنا على طول المسلسل بأن "الطغاة كانوا دائماً شرط الغزاة"، فيما لم يكتب لمسلسل "سقوط غرناطة" أن ينفذ.
ويعتقد حاتم أن "كثيراً من مشكلاتنا المعاصرة تتطلب مناقشتها أحياناً العودة إلى أصل الحكاية، العلاقة الملتبسة مـثلاً بين الحاكم والمحكوم، شكل الدولة العربية، أسئلة النهضة المجهضة، كلها تضرب عميقاً في التاريخ، سواءً ذلك التاريخ المخفي والمستور، أو التاريخ المسطر الذي جرى تكريسه بشكله الحالي لخدمة أهداف سياسية وإيديولوجية، ودينية وطائفية، اعتقد أنه جرت محاولة لإعادة اكتـشاف هذا التاريخ".
وهذا ما نجحت فيه ثنائية النص لدى وليد سيف والصورة لدى حاتم علي، في إشارات واضحة من "سؤال الدولة والعقد الاجتماعي" (غياب الشورى أو الديمقراطية على حساب الملك الوراثي الأوليغارشي) إلى سيادة التغلب (الانقلاب العسكري) على حساب الحكم الرشيد (الضائع بين خاصة وعامة، نخبة وشعب)، باستناد لحقائق لا تخلو من دراما جاذبة ومشوقة.
ورغم أن المسلسل التاريخي ليس هو التاريخ وفق "علي"، بل هي "وجهة نظر خاصة تستمد قوتها من تماسكها الفكري والفني" لدى الكاتب والمخرج، لذلك كان هناك دخول هذه الأعمال بمثابة حقل ألغام "مع وجود جمهور عريض وغير متجانس يعتبر التاريخ المكتوب هو الحقيقة المطلقة".
ولم تقف ثنائية "سيف وعلي" عند التاريخ بالعودة إلى مئات السنين، بل توجها إلى القضية الفلسطينية في ظل ثورتها الكبرى بثلاثينيات القرن الماضي، وحتى ما بعد النكسة في الستينيات، حيث توقفت الرواية هناك لأسباب سياسية فرضها الواقع والأنظمة العربية التي تمول إنتاج هذه الأعمال.
يحكي حاتم عن التغريبة الفلسطينية - لم يكن يعلم أن التاريخ سيعيدها في سوريا بزمن أكثر اتساعاً وحداثة وتنقله الكاميرات مباشرة دون حاجة لاستذكارها عبر مسلسلات وأفلام - قائلاً: "كنت أشعر أنني أصنع مسلسلاً عني أنا، لأنه كان هناك تقاطعات كبيرة بين هؤلاء الناس، وبيني كشخص".
ولعله المسلسل الأكثر شهرة في تاريخ حاتم علي لما يحتويه من قضية معاصرة، ما زالت فصولها مستمرة إلى اليوم، وبدأت تُستعاد مشاهداتها مع عذابات الربيع العربي الذي حملت ملايين السوريين خارج بيوتهم قسراً، حيث كانوا ينتظرون اليوم الذي سيظهر فيه للنور مسلسل يخرجه حاتم علي عن "التغريبة السورية" يوثق فيه مرارة مواطنيه الباحثين عن الحرية.
ويعتقد حاتم علي أن "الرغبة لدى المشاهد بأن يستعيد هذه التجربة مرة ثانية وثالثة، ربما تفصح عن رغبة بمشاهدة (عذاباته)، والتماهي معها والرجوع نحو معايشتها مرة أخرى".
حمل "التغريبة الفلسطينية" الساحر الكثير من المشاعر والأحزان وصور المجتمع الريفي الفلاح والمتمدن، وصراع الطبقات الإقطاعية والبرجوازية مع قاطفي الزيتون والمعتاشين، أحلام الثورة وبناء الدولة الوطنية التي انتهت إلى "يهودية" بعد تهجير مئات آلاف الفلسطينيين من قراهم وبلداتهم تحت سطوة السلاح، لتبدأ حياة المخيمات وعذاباتها اليومية مع عزلها القائم على أمراض مجتمعية زادتها المحنة، واستطاع الممثلون أن يعيشوا الحالة الفلسطينية بدرجة متفوقة من الإتقان للهجة والأداء وصدق المشاعر، لا سيما أن حاتم علي لم يكن مخرجاً للعمل فقط بل أدى دور "رشدي" ليختتم المسلسل بالتأكيد على "رمزية المقاومة بالسلاح".
لا يمكن المرور بثنائية "سيف وعلي" دون الحديث عن آخر أعمالهما مسلسل "عمر" أبرز الصحابة والخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وتجسيده عياناً، صوتاً وصورة، في خطوة نادرة عربياً، وفاتحة لعاصفة من الجدل لم تنته قبل وأثناء وبعد عرض مسلسل نال شهرة عالمية وتُرجم للعديد من اللغات.
استطاع المسلسل أن يعيد سرد السيرة النبوية بلغة عربية أدبية عالية، ساحرة وبديعة، شيءٌ بين القصيدة الشعرية والنثر الأدبي الرفيع، كما اعتاد وليد سيف أن يكتب، وأثبتت إدارة حاتم علي للعمل تطوراً ملحوظاً على جميع الأصعدة، من الديكور إلى اختيار كادر التمثيل، وحركة الكاميرا في كل المشاهد لاسيما المعارك وصولاً للموسيقا التصويرية، ليقدم مع فريقه لوحة فنية نالت إعجاباً منقطع النظير.
كل ذلك دفع حاتم علي ليكون مخرجاً درجة أولى في العالم العربي، وأتاح له التنقل لإخراج مسلسلات غير سورية، مثل "الملك فاروق" في مصر بجدله السياسي والاجتماعي بتاريخ مصر الحديث، و"الصراع على الرمال" في الإمارات مستمراً بنجوميته التي تخطت دائرة العادي، وبدون تكرار، حاصداً لعشرات الجوائز عن كل عملٍ يمضي توقيعه عليه.
سوريا.. و"سؤال الثورة"؟
لم تكن مسلسلات حاتم علي على طول العقد الأول من الألفية الثانية تحمل منحى سياسياً معاصراً مباشراً أو غير مباشر في ظل سلطوية النظام السوري الذي أعطى مساحة محدودة لمنتقدي الفساد وبمستويات معينة، حيث فضل "علي" أن يكون خارجها، مواظباً على تقديم قناعاته بقضايا المجتمع السوري وجمالياته وأمراضه بقالب وثيمة خاصة تخلو من السياسة إلى حد كبير.
وهو ما ظهر في مسلسلات "الفصول الأربعة 1 و2" و"أحلام كبيرة" و"عصي الدمع" و"على طول الأيام".
ولعل "أحلام كبيرة" للكاتبة الفلسطينية السورية أمل حنا، الذي أثر بنسبة كبيرة من مشاهديه خاصة بفئة الشباب الذين يضعون أحلامهم ولا يعرفون إلى أين تنتهي بهم الأيام، نسخة من الحلم الإنساني، أحلام لم تكن كبيرة جداً لتزيل الواقع من الطريق، وتنتصر بالنهاية الشخصية الشريرة الواقعية على الشخصية الحالمة الخلوقة المتزنة، مؤكدة أن "كل شيء ضاق.. ضاق حتى ضاع".
بعد سنوات فقط من إنتاج تلك المسلسلات، تشتعل ثورات الربيع العربي، وتنتقل رياح التغيير إلى الشارع السوري ويبدأ شبابه بالانتفاض شيئاً فشيئاً نحو "أحلام كبيرة" و"فصول أربعة" تنهي "طول الأيام" المتعثرة التي يعيشها باحثون عن ربيع لدمشق يشبه لحد ما "ربيع قرطبة".
شارك حاتم علي بمظاهرة الشموع أمام السفارة الليبية في العاصمة دمشق عام 2011 والتي ضمت العديد من المثقفين والفنانيين السوريين، لكن بعد انتشار الثورة السورية طولاً وعرضاً التزم حاتم الصمت بعيداً عن وسائل إعلام النظام مغادراً البلاد دون رجعة.
وفي واحدة من تصريحاته النادرة قال حاتم لصحيفة الوفد المصرية عام 2013، "سوريا ليست بخير، ويعيش شعبها مأساة حقيقية ورائحة الدم تفوح في الشوارع، مبيناً أن "الثورات لم تكتمل بعد، وتحتاج إلى دراسة لتنفيذ أهدافها التي تُخرِج الشعوب من النفق الضيق الذي يعيشون فيه إلى طريق الحريات..".
وبعدها قدم للسوريين مسلسل "قلم حمرة" عام 2014 صُور في لبنان، مناقشاً قضية الثورة السورية والاعتقال المرير بقالب سياسي بارز، ثم مسلسل آخر باسم "العراب" (2015 - 2016) كذلك صور خارج سوريا، يتحدث فيه عن صراع الحرس القديم والجديد في النظام السوري بعد استلام بشار الأسد للحكم، وكيف كان يدور الفساد بين رؤوس الدولة، لينهي أعماله السورية عام 2017 بالعمل الفنتازي "أوركيديا".
استمرت صيرورة الثورة السورية، ودوامة النظام في العنف، وباتت سوريا ساحة للصراع الدولي، وقررت نقابة الفنانين التابعة للنظام أن تشطب اسم حاتم علي مع العشرات من الفنانين الذين اتخذوا موقفاً مناهضاً للنظام أو التزموا الصمت ولم يكونوا في صفه، في تلك الأثناء كان أبرز المخرجين السوريين يصل إلى كندا لطلب اللجوء فيها.
إذاً يحسب لحاتم علي محاولاته أن يكون رقماً صعباً في التاريخ الفني العربي (وكان)، وعبقرياً في محاكاته للنص بصور لا تقل روعة عن المكتوب على الورق، وباحثاً عن القيمة في معظم أعماله الدرامية، ومنطلقاً من شغفه وأفكاره على حساب المنتج وصانع القرار، ومستمراً بأحلامه إلى اللحظة الأخيرة، تنعاه الشعوب العربية كواحد من أبرز أعلامها، لم يُسجل موقفاً سياسياً مسانداً لطاغية أو ظالم، مستحقاً كل ذلك الضجيج الذي رافق رحيله، وكل تلك الرسائل الحزينة التي تقول له:
"نامي إذا يا روح...نامي اﻵن
هي آخر الأحلام نطلقها على عجل ونمضي..
هي آخر الأيام نطويها
ونرحل في سلام
نامي اﻵن ياروحي....فقد نفد الكلام".