لو أن الأديب الدنماركي المعروف عالمياً هانس أندرسون عاش في هذا الزمن لتوقف عن إبداع الحكايات، منتظراً من الحكومة الدنماركية الحالية إبداع الحكايات التي لا تخطر على بال مجنون.
أن يتم جمع أناس كثر في مكان منعزل ضمن مصادفات متنوعة ليست بفكرة غريبة عن الأدب العالمي، وقد تناولها المبدعون ــ من روائيين ومسرحيين وسينمائيين ــ قديماً وحديثاً بعدة أشكال وتصورات، لكن، هذه الفكرة تعود حالياً إلى الواجهة، وهذه المرة ليس على يد مبدعٍ ما، وإنما على يد الحكومة الدنماركية، ويحسب لها التجديد على صعيد هذه الفكرة، ألا وهو، تنوع أعراق وبلدان وانتماءات الناس الذين تنوي جمعهم على جزيرة مهجورة.
يقول الخبر: الحكومة الدنماركية تنوي تخصيص جزيرة مهجورة للاجئين والمهاجرين على أراضيها.
جزيرة "ليندهولم" التي لا يوجد عليها سوى بعض الإسطبلات والحيوانات، ومحرقة تابعة لمركز أبحاث الأمراض المعدية لدى الحيوانات.
جزيرة "ليندهولم" التي لا يوجد عليها سوى بعض الإسطبلات والحيوانات، ومحرقة تابعة لمركز أبحاث الأمراض المعدية لدى الحيوانات.
وهنا لدينا وجهات نظر سريعة لشخصيات دنماركية بارزة، يبدو من كلماتهم أن لديهم ثأر شخصي مع اللاجئين.
كتبت إينغر ستويبرغ، وزيرة الهجرة الدنماركية في حسابها على موقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك عن اللاجئين غير الشرعيين: "عليهم أن يشعروا بأنهم غير مرغوب فيهم". وكأن ثمة ثأر شخصي بين اللاجئين وهذه الوزيرة حتى تتحدث بهذه الكراهية!
وقال بيتر سكاروب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الدنماركي "الآن نتوجه إلى اللاجئين من أول يوم برسالة واضحة هي أنهم لن يمضوا بقية حياتهم في الدنمارك، لأنهم سيحصلون فقط على إقامة مؤقتة إلى أن يتمكنوا من العودة إلى بلادهم".
قال وزير المالية الدنماركي كريستيان جنسين: "هذا ليس سجنا وإنما مكان للمبيت يجب أن يعودوا إليه ليلا ويبيتوا فيه".
أما وزارة المالية فقد قالت في بيان لها: "ينبغي بقاء اللاجئين في الدنمارك مؤقتا بدلا من البقاء بشكل دائم".
وفي تتمة الخبر جاء ما يلي: تنوي الحكومة الدنماركية التي يقودها يمين الوسط وحزب الشعب الدنماركي اليميني، إرسال اللاجئين غير الشرعيين في البلاد إلى جزيرة "ليندهولم".
وتقع هذه الجزيرة التي تبلغ مساحتها 17 فدانا، في خليج بحر البلطيق، على بعد حوالي ثلاثة كيلو مترات من أقرب شاطئ، كما أن خدمة العبّارات قلّما تُستخدم. منها وإليها.
وعلى اللاجئين الموجودين في الجزيرة إثبات حضورهم لدى مركز الجزيرة يومياً، وإلا سيواجهون عقوبة السجن.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الخبر هو إعلان لمسرحية عبثية لـ صموئيل بيكت، أو فيلم سينمائي لـ ألفريد هيتشكوك، إلا أنه ومع التدقيق بالخبر سوف نكتشف أن السيناريو والإخراج من إبداع الحكومة الدنماركية، وبعدما يتخطى المستمع الدهشة الأولى عند سماعه لهذا الخبر سوف يراوده شعور أن أعضاء هذه الحكومة ليسوا إلا مجموعة من المسرحيين الذين ينوون أن ينتقلوا بالمسرح العبثي من الخشبة إلى الحياة، من خلال تجارب فكرية ميدانية لا أحد يعلم كيف عصفت في رؤوسهم.
عانت أوربا كثيراً من التمييز العنصري على أساس اللون أو الجنس أو القومية أو الطائفة في الماضي، لعل آخر تجاربها المريرة في العصر الحديث بخصوص التمييز، كانت تجربة النازيين مع اليهود والغجر ومحاولة إبادتهم بعد نقلهم إلى معسكرات ضخمة ومغلقة، في تجربة سوداوية للعيش المشترك بين المحكومين بالإعدام.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية منتصف أربعينات القرن الماضي لم تشهد أوروبا صعوداً عنصرياً على صعيد حكوماتها بشكل واضح وملفت للنظر كما نشهده الآن، فاليمين المتطرف استطاع في السنوات الأخيرة في عدة دول أوروبية أن يحقق نجاحات لا يمكن تجاهلها، وأن يتسلل في وضح النهار إلى تشكيلات حكومية تمثل هذا البلد الأوروبي أو ذاك.
ولكن أن يصل هذا العقل العنصري إلى درجة ينوي فيها جمع اللاجئين كلهم معاً في جزيرة معزولة، أعتقد أنها سابقة فريدة من نوعها في تاريخ العنصرية، وتسجل لصالح الحكومة الدنماركية
ولكن أن يصل هذا العقل العنصري إلى درجة ينوي فيها جمع اللاجئين كلهم معاً في جزيرة معزولة، أعتقد أنها سابقة فريدة من نوعها في تاريخ العنصرية، وتسجل لصالح الحكومة الدنماركية، من قبل العنصريين في العالم على أنها ابتكار مذهل، ويستحق الإعجاب لما فيه من إبداع ومخيلة سوداء تجاوزت حتى مخيلة هتلر.
كيف يمكن لنا تخيل الحالة؟ طبعاً، على الشكل التالي، عشرات الآلاف من البشر الذين ينتمون إلى أعراق وشعوب ولغات (عرب، أكراد، أفغان، أفارقة. الخ) وبعد أن قادتهم مصائرهم إلى الدنمارك بحثاً عن حياة لم تتوفر لهم في بلدانهم، يساقون غصباً عنهم إلى جزيرة مجهولة، ويزجون فيها معاً في عزلة قاسية ومخطط لها، ويمكن كل شهر إرسال بعض القوارب لهم تحمل الغذاء وبعض الرسائل من أصدقاء لهم في أمكنة أخرى في هذا العالم.
أعتقد أن أوربا تتجه بثقة، وبأقدام ثابتة.. رويداً رويداً نحو المزيد من الانحدار الأخلاقي.
إذن لنكمل في خيالنا مستقبل هكذا مشروع ــ أو على الأقل في خيالي، معتمداً على قراءات ومشاهدات سينمائية ومسرحية مشابهة لهذه الحالة ــ بعد أن يصل اللاجئون إلى الجزيرة، تنشأ بينهم بعض المشكلات وبعض التفاهمات، وارتباكات وسوء تفاهم من هنا وهناك إلى أن يأخذ وضعهم شكلاً منظماً مع مرور الوقت، أعراق وأديان ولغات يمتزج بعضها ببعض خلال عقود من العزلة على هذه الجزيرة، لأناس هربوا من أوطانهم قهراً فوجدوا أنفسهم متورطين بجزيرة من قهر، ثم ينجبون جيلاً أو جيلين خلال عقودٍ قليلة، بعد أن يخترعوا لغة خاصة بهم، ومن الممكن أن يطوروا معتقدات دينية تناسب وضعهم، وبعد زمن لن يكون طويلاً، يغزون أوروبا ويسيطرون عليها.
قد يضحك القارئ على شطط خيالي حيال سكان هذه الجزيرة من المهاجرين واللاجئين، ولكن أعتقد أن مخيلة الحكومة الدنماركية ليست أسوء من مخيلتي.. بل إنها، وبامتياز، صاحبة أفظع مخيلة بين أنواع المخيلات في هذا العالم.