في مفاجأة جديدة من نوعها، فجرت الأكاديمية السويدية يوم الخميس 10 من تشرين الأول 2019 قنبلة مدوية إثر إعلانها عن الفائزين بجائزة نوبل للآداب عن عامي 2019 و2018، وكانت المفاجأة بحجب جائزة نوبل للآداب عام 2018 بسبب فضيحة جنسية انتشرت في أوساط الأكاديمية قام بها زوج إحدى عضوات الأكاديمية الذي اتهم بالتحرش الجنسي بعدد من العضوات وعدد من زوجات وبنات أعضاء آخرين، إثر هذه الفضيحة اضطر القائمون على الجائزة بتقديم تصريح علني وبعقد مؤتمر صحفي يوضح الحادثة وذلك بناء على ضغط جماهيري عالمي كانت قد أحدثته حركة me too التي تناهض التحرش الجنسي وتنتصر لحقوق المرأة .
ولكن ما حصل هذا العام هو خرق كبير في قيم جائزة نوبل التقدمية التي أعطت تلك الجائزة وميزتها عن غيرها من الجوائز العالمية التي صعدت ثم انهارت، فجائزة نوبل للآداب تعد الواجهة الأخلاقية والمرجعية الأدبية للغرب، وتساهم بشكل أساسي في تكريس قيم الحرية والعدالة والديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان بما تتضمنه من حريات جنسية وعرقية ومناهضة لأي شكل من أشكال التمييز والفاشية والعنصرية..ولذلك كانت على الدوام تبحث في ثنايا الأدب العالمي ليس فقط عن روائع الأدب الإنساني ودرره، بل كانت تجسد حالة تكريمية لنضال أدباء ومفكرين وشعراء ومسرحيين ساهموا في حرية شعوبهم، أو في تحرر مجتمعاتهم، وكانت كتبهم حقيقة مداميك نوعية وجوهرية في حركة التغيير في تلك البلدان ونماذج يحتذى بها في كسر التابوهات، كل التابوهات، دينية كانت أم سياسية أو جنسية، ولعل أشهر تلك الأمثلة، حالة نجيب محفوظ الذي نال جائزة نوبل في سنة 1988، والتي أعطيت له تحديداً عن كتابه ( أولاد حارتنا) الذي منعته الحكومة المصرية بناء على توجيهات من الأزهر، وذلك بسبب تأويلات على النص طاولت تشبيهات شخوص الرواية بالرب والأنبياء وقيم دينية أخرى، وهناك حالة أخرى مثل داريوفو الإيطالي الذي نال نوبل لجرأته في نزع قدسية الحكومة والكنيسة وتعرية المجتمع في مسرحياته، وباسترناك السوفييتي الذي نال نوبل عام 1957، عن روايته الخالدة( دكتور جيفاغو) والتي فرضت عليه السلطات السوفييتية أن يرفض استلام الجائزة لتتحول إلى منارة أدبية خالدة في الاتحاد السوفييتي.. والأمثلة كثيرة لا تنتهي من كتاب صينيين وإفريقيين وهنود وأميركيين .
ما حصل هذا العام هو خرق كبير في قيم جائزة نوبل التقدمية التي أعطت تلك الجائزة وميزتها عن غيرها من الجوائز العالمية التي صعدت ثم انهارت
ولكن نتيجة هذا العام كانت ثقيلة إلى حد ما في اختيارها لقامة أدبية ناطقة بالألمانية كبيرة، هو الروائي والمسرحي والصحفي بيتر هاندكه الذي يعد أحد أبرز كتاب الألمانية المعاصرين بعد الكبير غونترغراس صاحب" الطبل الصفيح"، وهاندكه صاحب الروائع الكثيرة في المسرح والسينما والرواية ليس باسم عادي في الأدب الأوروبي، وله صولات وجولات منذ نصف قرن على الأقل، ولكن ارتداداته اليمينية كانت صادمة بالنسبة لمعجبيه وقرائه وعموم متابعي الأدب الأوروبي، فلقد فجر الرجل قنبلة مدوية في عام 2006 كانت قد استمرت قبلها لعامين متتالين، حينما أعلن مناصرته للرئيس اليوغوسلافي الصربي السابق سلوفودان ميلوسوفيتش الذي أدين بجرائم حرب واعتقل من قبل المحكمة الجنائية الدولية وحوكم في لاهاي.
ولكن قصته مع مناصرة ميلوسوفيتش بدأت قبل ذلك بسنوات، ففي عام 1996 نشر المسرحي النمساوي بيتر هاندكة مسرحيته (رحلة شتوية في أنهار الدانوب وساف ومورافا ودرينا أو العدالة الصربية) وهو كتاب صادم تتماوج بين لغتها الشعرية ومعانيها اليمينية ووصف بأنه كتاب غنائي راسخ لتفاصيل رحلة حديثة إلى صربيا، مقرونة بلغة حادة وصارمة تجاه الألمان والكروات والغرب عموماً متمثلاً، تجاه ما سماه موقفه الظالم من حرب يوغسلافيا في التسعينات، التي اتهم بها الولايات المتحدة الأميركية بمحاولة تدمير يوغسلافيا وفتحها أمام الأسواق العالمية الرأسمالية، وهي سردية سنتعرف عليها بشكل واضح في حروب لاحقة كان أبرزها حرب العراق والمقتلة السورية.
بالطبع لم يكن موقف بيتر هاندكة اليساري حينها، منسلخاً عن كراهيته المضمرة والكبيرة للرأسمالية المتمثلة بأميركا والحكومات الأوروبية التي ساهمت على حد قوله بتخريب النموذج الاشتراكي المتمثل في التعايش اليوغسلافي، والذي أفضى إلى مجازر كبرى بحق البوسنيين والكروات، قامت بها القوات والميليشيات الصربية المدعومة من روسيا الضعيفة حينها والتي لم تقدر على زج قواتها في الحرب البلقانية دفاعاً عن حلفائها.
ولعل موقف هاندكة من حرب البلقان، يشبه إلى حد بعيد موقف أغلب يساريي العالم العربي وحتى أوروبا في جعل قراءتهم للمشهد هي قراءة تنظيرية سياسية، غير واقعية للمشهد بشكل عام، تنبع من كراهية إيديولوجية للمعسكر الرأسمالي الذي " وفقاً لأدبياتهم " يتنكر بقناع القيم الديمقراطية من أجل تدمير الأمم والشعوب وإخضاعها لقيم البنك الدولي والرأسمالية المتوحشة، دون قراءة هوامش النص الماركسي المتعلقة بحقوق الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، أو إدانة المجازر البشعة وحروب الإبادة التي قام بها الصرب ورئيسهم ميلوسوفيتش.
لم يكتف هاندكة بموقفه الأدبي ذاك، بل تابع هروبه إلى الأمام حينما ظهر على شاشة التلفزيون الصربي عام 1998 إبان المفاوضات الصربية مع ألبان كوسوفو قائلاً بحسم غريب: (لا يوجد شعب في أوروبا في هذا القرن كان عليه أن يتحمل ما كان على الصرب تحمله لمدة خمس سنوات أو أكثر، إنها مأساة بلا سبب، فضيحة).
لايوجد تصنيف لهذا الأمر مطلقاً، ربما يمكنهم مراعاة اليهود، أما الصرب فليسوا مدرجين في قوائم التعاطف).
صحيح أن بيتر هاندكة اعتذر فيما بعد عن هذا التصريح واعتبره زلة لسان، ولكنه تابع في سيره عكس تيار المنطق في القضية اليوغسلافية التي ارتبط بها بشكل عجيب، ربما لكون أمه من أصول سلوفينية أنجبته على الحدود في قرية بين النمسا ويوغسلافيا وارتبط مع الطبيعة والسكان هناك بذاكرة حديدية جعلته مدافعاً بشكل محموم عن كل جرائم الصرب في تلك الحرب المجنونة، فقام بخطوته المستفزة الكبيرة، حينما زار الرئيس الصربي المعتقل إثر اتهامه بجرائم حرب سلوفودان ميلوسوفيتش في سجنه في لاهاي وجلس معه لساعات، ومن ثم استدعاه فريق الدفاع عن سلوفودان في المحكمة ذاتها كشاهد أخلاقي في تلك المحاكمة الشهيرة غير أنه رفض خجلاً ولكنه نشر مقالاً طويلاً في ذم وقدح ما سماها الإمبريالية العالمية التي تود تدمير الشعوب، ولكن حركته الكبيرة في مبارزة الشطرنج مع وسائل الإعلام الأوروبية كانت حينما أُعلن عن وفاة ميلوسوفيتش المفاجأة في محبسه في لاهاي في 2006وإعلان هاندكة عن رغبته في حضور مراسم جنازة الرئيس السابق المتسربل بتهم الإبادة الجماعية ومجازر مروعة في سربرينتشا وغيرها، وبالفعل لم يكتف بيتر هاندكة بالمشاركة في الجنازة بل هو ذهب أبعد من ذلك بإلقائه كلمة حماسية فوق قبر ميلوسوفويتش ألهبت مشاعر القوميين الصرب من جديد، وحال عودته إلى منزله قام بالشروع بكتابة مسرحيته الجديدة ( لعبة الأسئلة أو الرحلة إلى الأرض ذات الصوت الجهوري) مما أدى إلى ردود فعل شديدة مناوئة لمواقفه تلك ومجابهتها بشكل غير مسبوق في عدد كبير من الدول الأوروبية، فقد حذفت مسرحياته التي كانت تمثل في الكوميدي فرانسيز وأوقفت بشكل تام، بسبب مواقفه الفاشية، وحجبت عنه جائزة هاينرش هاينه الأدبية التي أعلن عن فوزه بها قبل أيام وتتالت المقالات و المقابلات التلفزيونية التي تدين مواقفه اليمينية بشكل كبير، ولكنه استمر في عناده وتشنجه في موقفه المتناسي لعشرات آلاف ضحايا الحرب اليوغسلافية وتأييده للقتلة بشكل منحاز وتام ، فحينما عرضت مسرحيته ( آثار الضالين) لأول مرة، اقترح على المسرح إرسال عائداتها بالكامل لإحدى قرى الصرب الفقيرة في صربيا، وحينما سأله أحد الصحفيين لم لم ترسل تبرعات لقرى البوسنيين المتضررة أجابه بأن أولئك متحالفون مع أميركا، في إشارة ضمنية إلى كونهم خونة ..
إن عملية الفصل بين منجزات الكاتب الإبداعية و ممارساته السياسية في هذا العصر تبدو نوعاً من الرفاهية ودفن الرأس في الرمال
إن عملية الفصل بين منجزات الكاتب الإبداعية وممارساته السياسية في هذا العصر تبدو نوعاً من الرفاهية ودفن الرأس في الرمال، وتجاهل النوازع الأساسية للكاتب وفهمه للعالم وصيرورته وتشكله، ربما يكون لديه الحق في اتخاذ موقف سياسي، ولكن لا يمكنه أبداً تبرير القتل واستسهاله، ومحاباة دكتاتور رهيب مثل ميلوسوفيتش. وإن أردنا أن نذهب أبعد، يمكنه أن يفعل ذلك فلكل إنسان الحق في تأييد أي طرف وأن يتماثل معه في الجريمة، ولكن لا يمكن لمؤسسة عريقة مثل أكاديمية نوبل أن تتجاهل كل هذا، وأن تضع اسم كاتب كبير جداً مثل بيتر هاندكة جنباً إلى جنب مع مناضلين حقيقيين من أدباء وكتاب عالميين، كانوا رواداً حقيقيين للديمقراطية والحريات والعدالة في هذا العالم..
ربما أراد أعضاء الأكاديمية خلق توازن في إعلانهم هذه السنة فهم منحوا الجائزة لعام 2018 للبولونية أولغا توكارنتشوك التي أمضت حياتها في نضال حقيقي ضد حكومة بلادها اليمينية المحافظة، وأفردت صفحات كثيرة من كتبها لتعرية كل الجوانب المظلمة من الممارسات اللاإنسانية المحافظة التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية في بلادها طوال قرون طويلة..وربما تفتح الأكاديمية لعدد كبير من الكتاب الباب ليصرحوا بمشاعرهم الفاشية واليمينية والعنصرية ربما، والتي كانوا يضمرونها خوفاً من المجتمع الأدبي العالمي ورأيه الحاسم في هذا الموضوع، وربما أيضاً يكون للكتاب العرب السبق في هذه التصريحات، فعدد منهم امتلك جرأة وصراحة كبيرة في التعبير عن تأييده للإبادة الجماعية بحق الشعوب، وربما يمنحون أمثال بيتر هاندكة عفواً وتطويباً وصكاً للغفران من كاتدرائية الأكاديمية السويدية البابوية للأدب العالمي .