لم يكن مقتدى الصدر، القائد الصاعد للتيار الصدري العراقي بغافل عن المخاطر التي سيواجهها، في حال استمرار تصعيد احتجاجه ضد خصومه في السياسة ونزلاء ذات المذهب الديني، من بقايا أحلاف إيران في العراق، ممن يسمون أنفسهم بالإطار التنسيقي، المؤلف من عدد من الأحزاب الدينية برئاسة رئيس الوزراء العراقي السابق، المشوب عهده بتهم لا نهائية مرتبطة بالفساد والتآمر على الدولة وإطلاق تنظيم داعش الإرهابي.
فمواجهة الإطار التنسيقي تعني مواجهة الحشد الشعبي بكل ميليشاته، وفصائله العسكرية، وبالتالي مواجهة إيران ذاتها، التي باتت يدها هي الطولى دون أي منازع في الشأن العراقي الداخلي والخارجي.
لكن قائد التيار الصدري وسليل العائلة الصدرية قرر أن يصعد احتجاجه مستنداً إلى انتصاره المدوي الأخير في الانتخابات البرلمانية المنصرمة، والتي أتاحت له نجاحاً كبيراً بادر أنصاره استناداً عليها إلى الطلب بتشكيل حكومة أغلبية، لكن المالكي وأنصاره ومن خلفهم رفضوا رفضاً قاطعاً لعلمهم ومعرفتهم بأن نزول أي طاغية عن الحكم في البلاد العربية وتسلم خصومه الحكم يعني أنهم سيواجهون محاكمات سريعة وربما أحكاماً لا نهائية بالسجن أو الإعدام.
رفع الصدر عقيرته مطالباً عبر حناجر أنصاره، بخروج إيران من العراق، وعودة العراق إلى الحضن العربي، وعودة العرب إلى العراق
هذا السجال المستمر منذ عشرة أشهر تقريباً، بددته أصوات المدافع والبنادق في شوارع بغداد والمدن العراقية، والمنطقة الخضراء خصوصاً، بعد اشتعال فتيل الفتنة الشيعية الشيعية، والتي حذر منها كثير من الساسة العراقيين والعرب، فهي تعني انفجار الوضع في البلاد بين أنصار المعسكر الإيراني في العراق، وأنصار المعسكر العربي فيه.. حينما رفع الصدر عقيرته مطالباً عبر حناجر أنصاره، بخروج إيران من العراق، وعودة العراق إلى الحضن العربي، وعودة العرب إلى العراق، بعد سنوات طوال من فرسنته.. وانحداره إلى مستويات غير مسبوقة من الفشل السياسي والأمني والاقتصادي..
فبعد إعلان الصدر اعتزاله السياسة الأسبوع الماضي، نزل عشرات الآلاف من أنصاره إلى الشوارع، مطالبين بخروج إيران من العراق وتفكيك الميليشيات المنتشرة في كل مدينة وحي، احتل أنصاره القصر الجمهوري وحاصروا القصر الحكومي والبرلمان، اندلعت المعارك بشدة بعد إعلان كاظم الحائري انفصاله عن التيار الصدري وانحيازه إلى إيران.
والإمام الحائري هو المرجع المعتمد والموصى به من قبل والد مقتدى الصدر، المرجع محمد بن محمد صادق الصدر.. الذي أوصى قبل أن يتوفى بضرورة اعتماد كاظم الحائري، كمرجع بديل له في حال اغتياله أو موته المفاجئ.. أما مرجع كاظم الحائري فهو الخامنئي.. مما يجعل أتباع التيار الصدري يتبعون لمرجعية الخامنئي في علاقة متعدية بسبب الحائري نفسه. حيث شكل انشقاقه فكاكاً من التبعية لإيران ولو مرحلياً.
بينما لا يخفي مقتدى الصدر انتماءه العربي ورفضه للتبعية الإيرانية، حيث كان قد صرح في ذات مرة بأن النجف هي المرجعية الأساس للشيعة العرب، وليست قم أو مشهد.. وهذا صراع حقيقي ناشب، وقابل للتفاقم، حول أساس التشييع الإسلامي، وهل هو عربي أم فارسي.. هل يتبع للمرجعية العربية في النجف، أو يتبع لفقهاء النظام الإيراني..
في وقتنا الحالي المرجعية العليا لدى الشيعة الاثني عشرية هي الإمام السيستاني ومقره في النجف في العراق، ويقول عدد من الباحثين بأنه من أصول إيرانية.. مما خلق حالة توافق بين الرجل كأصل قومي وبين مقره ونفوذه كجغرافيا وقوة سياسية شعبية..
قبائل العراق التي تتبع المذهب الشيعي، لم ولن تقبل بطغيان العنصر الفارسي عليهم، ولهم في التاريخ ما لهم من حروب وصراعات بين الطرفين لم تتوقف
فالعراق هو الجغرافيا الأساسية للتشييع عربيا كان أم فارسيا، فيه جميع المراقد والمدن الأساسية، والحوزات العلمية والحسينيات، وفيه خلق المذهب وصارع من أجل البقاء.. بينما يعتبر الفرس أنفسهم هم من نقلوا المذهب من طي الخنوع والتبعية والخوف، إلى القوة والمبادرة في انتزاع ما لهم حسب زعم ملالي طهران.. فالثورة الإسلامية حسبهم، هي من أعادت للمذهب قوته، وهي من نصرت شيعة العراق على صدام حسين، وهي من دعمت وتدعم جميع أتباع المذهب في كل الدول العربية. وعليه فهي من تستحق أن يكون ملاليها رؤوساً للمذهب.
من هذه النقطة اندلع الصراع بخلفيات تاريخية وعرقية وجغرافية، ولن ينتهي قبل أن يحدد العراقيون وجهتهم، شرقية أم غربية، فقبائل العراق التي تتبع المذهب الشيعي، لم ولن تقبل بطغيان العنصر الفارسي عليهم، ولهم في التاريخ ما لهم من حروب وصراعات بين الطرفين لم تتوقف على الحرب بين صدام والخميني، وإنما تمتد لما قبل الإسلام بكثير.. فالحساسية بين الطرفين ممتدة ومتجذرة، رغم غياب الحسم الحالي بفضل ميليشيات إيران في العراق التي تمنع سيطرة الدولة على مقدراتها وتمنع تطبيق القانون وتشجع انتشار الفساد..
حسم الصدر الموقف وأعلن بقوة انتهاء ثورة أتباعه، منتظرا نتائج التحريك السياسي التي ولدتها المعارك السريعة قبل أيام، ولكن الأمور لم تنته هنا، ولن تنتهي قبل خروج إيران الفعلي من العراق، وما سيتبعها من خروج لفصائلها وأتباعها من سوريا ولبنان واليمن.