حين يبدأ اللاجئ بالبحث عن فرصة عمل؛ يكون قد درس مسبقاً مادة اسمها (سوق العمل الهولندي) تعلمه كيف يبحث عن فرصة عمل، وما هي حاجات سوق العمل الهولندي، وكيف يقدم على وظيفة في بلد يعتمد إلى حد كبير على ثقافة التقديم الإلكتروني.
اللاجئُ عامة بخاصة، ممن تجاوز الثلاثين، يتم الترحيب به في مجالات الاقتصاد الخدمي والمهني اليدوي، لأنه من الصعب عليه أن يجيد اللغة الهولندية بسهولة أو تغدو ثقافة العمل الحكومي جزءاً من شخصيته، التي تشكلت في بلده الأم، ومن الصعب أن تستثمر فيه الشركات الكبرى أو المؤسسات إذا ما قورن بجدوى الاستثمار في الشباب الأقل عمراً والأفضل لغة ومرونة.
التقديرُ الاجتماعي في الحياة الهولندية للمهن اليدوية أكبر من تقديره للمهن الإبداعية أو الوظيفية
مادةُ (سوق العمل الهولندي) تشرح للاجئ ما هي المهن التي يمكن أن تكون مطلوبة في سوق العمل، ومعظمها مهن يدوية أو خدمية، وليست مهناً عالية التعليم لأسباب عدة منها: سهولة الحصول عليها، إذ لا تحتاج إلى لغة هولندية من مستوى عال، وكذلك دخلها المادي جيد من مثل الكهربائي أو عامل الصحية أو التدفئة أو الدهان أو تجديد الأسقف الخارجية، إذا ما قورنت بمهن تحتاج إلى شهادات علمية (جامعة أو معهد عال أو ماجستير) بل إن دخلها المادي أقل بكثير من مثل الصحفي أو المذيع أو موظف البلدية، فأجرة ساعة ونصف لعامل الصحية مثلاً تعادل أجرة يوم كامل للصحفي!
التقديرُ الاجتماعي في الحياة الهولندية للمهن اليدوية أكبر من تقديره للمهن الإبداعية أو الوظيفية، وكثيراً ما تفتخر السيدة الهولندية أن زوجها عامل بناء على أن يكون أستاذاً جامعياً! لسبب بسيط أن الأستاذ الجامعي رجل فكر وعلم وتدريس وبحث، وبالتالي فإنه غير عملي في متطلبات الحياة اليومية الخدمية غالباً، فيما عامل البناء يتابع تفاصيل بيته اليومية ويجد لها حلولاً، ودخله المالي أعلى من الأستاذ الجامعي، وغالباً ما يكون ميالاً لاغتراف الكثير من بهجة الحياة ومتعتها، ويكون رأسه متفرغاً لعائلته أو حبيبته بعد انتهاء ساعات عمله، خاصة أن العمل ممتلئ بالاستراحات ولحظات القهوة والشاي وبالتالي يعود غير مجهد إلى منزله، فيما المهن التي تتطلب جهداً فكرياً غالباً ما يكون ممتهنوها مشغولي البال دوماً!
لا يستوعب الكثير من اللاجئين المتعلمين تقاليد العمل تلك ومتطلباته، وغالباً ما يتلقون الصدمة خلف الصدمة وهم يبحثون عن مهن تشسبه تلك المهن التي عملوا بها سابقاً، وكم من طبيب أو أستاذ جامعي أو صحفي عمل في توصيل طلبات الطعام أو الطرود البريدية في هولندا، ليس لأن هناك عنصرية تجاهه أو كراهية، بل لأن متطلبات سوق العمل الهولندي التنافسية مختلفة كلياً عن البلد الأم وثقافة العمل ومفهوم البحث عن فرص العمل والتنافسية تختلف جذرياً.
لا يوجد في هولندا مفهوم التوظيف التراكمي أو الالتزام الاجتماعي للدولة تجاه المواطنين وظيفياً، فالدولة تفضل أن تعطيك راتباً اجتماعياً شهرياً على أن توظفك لتكون عاملاً معيقاً في دائرة ما، فتدخل في نطاق البطالة المقنعة في الدوائر الحكومية أو المؤسسات. فالدولة ليس لديها وظائف جاهزة تملأ بها المواطنين، خاصة في ظل الاعتماد على الجانب الرقمي في الحياة، لكن الدولة تفسح لك المجال كي تعبر عن نفسك وتكون شريكاً في البحث وإيجاد الفرص وتوليدها، بل تخصص كل ميزانية كي تعيد إدماجك في سوق العمل إن فقدت مهنتك نتيجة مرض أو حالة نفسية أو نقص الطلب على ما كانت تمتهنه.
سوق العمل الهولندي اليوم لديه نصف مليون فرصة عمل تنتظر عمالاً لكنها لن توظف الذين ليس لديهم كفاءة، لأن أنصاف الأكفاء يكون ضررهم "للسيستم" ونظام الحياة أكثر من فائدتهم!
هناك أسئلة رئيسية في كل مقابلات العمل في هولندا، بناء عليها يُقبل الشخص في الوظيفة أم لا، هي: لماذا اخترت تلك الوظيفة لتتقدم إليها؟ ما الذي ستضيفه إليك؟ وما الذي ستضيفه إليها؟
يريدون أن تكون عامل إضافة للمكان الذي تنوي العمل فيه، وأن يكون لديك الدافعية اللازمة كي تطوِّر وتتطور، وليست دافعية أن يكون لديك دخل مادي فحسب، لأن الدخل المادي يمكن أن تحصل عليه من المساعدة الاجتماعية. في هولندا قاعدة رئيسة: لا تعمل إن لم تحب ما تعمل به ويجب أن تكون سعيداً في مهنتك وإلا اتركها وانصرف إلى مهنة أخرى تحبها!
في مادة سوق العمل الهولندي ثمة سؤال رئيسي لم يسمع به اللاجئون في وطنهم الأم يحدد مساره ومستقبله المهني، هو: ماذا تحب أن تعمل في المستقبل؟ مع الأشياء؟ أم مع البشر؟ أم مع العالم الرقمي؟ وتتبعه أسئلة فرعية تساعدك في اكتشاف شخصيتك وماذا تحب وإلامَ تميل؟ بعد أن تحدد المسار العام الذي تحبه من المجالات الثلاثة السابقة، يبدأ التحضير الدراسي له، والتدريب اللازم كي تتمكن منه بإشراف البلدية أو سواها.
يهرب الكثير من اللاجئين ممن تجاوزوا الثلاثين أو أعلى منها من المهن التي تحتاج إلى دراسة أو تدريب، ويلجؤون غالباً إلى مهن لا تحتاج إلى تدريب إلا لأيام قليلة، مدفوعين برغبتهم أن يكونوا أشخاصاً منتجين بسرعة، إضافة إلى حاجة أهلهم في الوطن الأم للمساعدة الشهرية، ونتيجة عدم تعلمهم للغة الهولندية لأنها تتطلب جهداً ووقتاً.
الكثير من اللاجئين يختارون مهنة "توصيل الطلبات والطرود" مثلاً لأنها لا تحتاج إلى تدريب طويل، وهناك فيها فرصة للعمل بالأسود (دون عقد) إضافة إلى أنها لا تحتاج إلى لغة هولندية وكذلك فيها حرية حركة أكثر من سواها، وبات اليوم سوق توصيل الطرود البريدية ضمن الاقتصاد الرقمي من أهم ميادين العمل، وقد جاءت ظروف كورونا لتجعله مجالاً رئيسياً يحتاج إلى آلاف العمال الذين يقومون بتوصيل الطلبات.
أما مهنة "عمال النظافة الخارجية أو الداخلية أو المطاعم" فهي مهنة المرحلة الأولى من اللجوء وهي ما قبل مرحلة توصيل الطلبات، لأنها هي الأخرى لا تحتاج إلى الكثير من التواصل مع البشر. والسوق الخدمي يجعل منها مهنة مطلوبة مما يجعل من صاحب العمل يبحث عن العمال، ويمكن أن يدفع لهم بـ (الأسود) وهو ما يرغب به الكثير من اللاجئين نظراً لرغبتهم بالمحافظة على المساعدة الاجتماعية الشهرية والتزاماتهم تجاه أهلهم في بلدانهم الأم وكونها لا تحتاج إلى دراسة، ووقت طويل.
مهنة "عمال البناء" مهنة تدر مالاً كثيراً، وهي مهنة مطلوبة جداً في هولندا، ويمكن للشخص أن يعمل في شركات كبرى، أو يفتتح شركته الخاصة أو يعمل بنسبة ثلاثين بالمئة من أجره الأساسي في حال رغب أن يعمل ويقبض بالأسود!
مهنة "عمال المطاعم" مهنة مطلوبة في هولندا وهي تختلط مع المهن السابقة في النظافة أو الجلي أو العمل في المطبخ
ومن المهن المطلوبة في سوق العمل الهولندي هي مهنة "الرعاية الصحية" وخاصة رعاية العجزة الذين يتجاوزون الثلاثة ملايين، وهم يتلقون رعاية من مؤسسات مختصة وليس من الأبناء نتيجة فلسفة الفردانية في الحياة الأوروبية، إلا أن الكثير من تلك المهن لا تعمل فيها النساء السوريات، نتيجة أسباب دينية واجتماعية كونها تتطلب في جوانب منها "تحميم الرجال كبار السن وتنظيفهم" أحياناً وزيارتهم إلى البيوت.
مهنة "عمال المطاعم" مهنة مطلوبة في هولندا وهي تختلط مع المهن السابقة في النظافة أو الجلي أو العمل في المطبخ أما العمل في الصالة فأمر يبتعد عنه الكثير من السوريين لأنه يحتاج إلى دراسة، لكن الكثير منهم افتتح مطعمه الخاص الذي يقوم غالباً على توصيل الطلبات في بلد كحالة هولندا، مطبخه ضعيف نسبياً ويعتمد الأكل الجاهز بخاصة شبابه، ويعتمد الفردانية نظام حياة التي تجعل كل فرد بالغ في العائلة مسؤولاً عن طعامه إضافة إلى فكرة الخروج من البيت بعد الثامنة عشرة مما يجعل الكثير من الشباب يعتمد على طعامه الفردي. وما يساعد على إقبال اللاجئين على تلك المهن كون من يدير كثير منها لاجئون سابقون أو أشخاص من خلفيات مهاجرة.
لا تعني إشارتنا إلى تلك المهن أن السوريين لم يدخلوا مجالات العمل الأخرى، بل إن الكثير منهم افتتح عيادته أو مدرسته الخاصة، وهناك كثير منهم دخل مهن الصحافة والتدريس والعمل الحكومي والترجمة والعمل السياسي والبرمجيات... وهناك أكثر من خمسة آلاف سوري افتتحوا شركاتهم الخاصة (من ضمن ثقافة الفري لانس) وهو عدد كبير إذا ما تذكرنا أن عدد الجالية السورية في هولندا بحدود 150 ألفاً.
أخيراً، نشير إلى أن الشباب السوري كانت لديه القدرة أكثر على دخول المجالات الصعبة في سوق العمل الهولندي؛ لأنه تعلم اللغة واكتسب ثقافة البلاد، ولديه دوافع مختلفة كلياً عن الأشخاص الأكبر سناً، في سوق عمل مستقر نسبياً، ميال للثبات، وكسل عدم التجديد والاجتهاد؛ نتيجة الاكتفاء وثقافة دولة الرعاية الاجتماعية، والميل إلى حياة نمطية دون مغامرات أو وجع رأس ما دام أن هناك دولة تحملك إنْ وقعتَ أو مالَ الزمان بك!