في آذار 2011 كانت أولى بوادر انتفاضة الشعب السوري قد ظهرت، وانتشرت على شكل أفقي في كل المحافظات والمدن السورية، على شكل تظاهرات سلمية، انفجرت على وقع التعب السوري من حكم الأسد الأب والإبن، الذي امتد ثابتاً منذ العام 1970 وإلى اليوم.
لن يمحى من الذاكرة، كيف جهد النظام في سوريا وحلفاؤه لعسكرة الانتفاضة وأدلجتها تمهيداً للانقضاض عليها. مآثر التلفزيون الرسمي وصحف النظام، حفلت بوقائع كاذبة ورديئة، وأفلام بإخراج باهت، عن وجود إرهاب مسلح تتم مواجهته، هذا في وقت كان الشعب المسالم يقتل بدم بارد كل يوم، دون أن يكون له حق الدفاع عن النفس.
قد يكون مفيداً العودة إلى دقائق تلك المرحلة، التي تحضر لها النظام وحلفاؤه جيداً، منذ اندلاع ثورة تونس وليبيا ومصر، وقد كان الأبلغ ما قاله الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في مقابلة تلفزيونية، عن مضمون اجتماع له مع قائد فيلق القدس قاسم سليماني، تحضيراً لوأد الثورة إذا ما اندلعت، وقد نفذت إيران الخطة بحذافيرها: إطلاق العنان لنواة تم تهريبها من سجون العراق وسوريا، لتؤسس داعش، ما سيؤدي إلى دعشنة سنة العراق وسوريا، وتنفيذ أكبر عملية استهداف بحقهم، وهي لم تنته فصولها بعد.
أوباما كان يرفض سماع أي خبر يأتي من سوريا، حتى أنه طلب من مساعديه، عدم ذكر الأحداث في سوريا أمامه.
لم تكن خطة إيران يتيمة الأب والأم. الرعاية الأميركية والإسرائيلية والروسية كانت حاضرة وبقوة. هربت إدارة أوباما من مشاهد القتل اليومي المروع في سوريا، واختبأت من هول ضرب المدنيين بالسلاح الكيماوي، وتركت لروسيا أن تخيط تسوية صورية قضت بسحب السلاح الكيماوي من النظام، ولعقت كل الخطوط الحمر التي وضعتها، أما السبب الأبرز فهو الغزل الأميركي لطهران، والتمهيد لتوقيع الاتفاق النووي الذي وقع في العام 2015.
يكشف أحد أبرز أركان إدارة أوباما في مذكراته أن إيران هددت بوقف مفاوضات ذاك الاتفاق، إذا ما أقدمت أميركا على توجيه ضربة عسكرية للنظام، فتراجع أوباما وفضل خطب ود الملالي، على الالتزام بتعهده بحماية السوريين من السلاح الكيماوي. لاحقاً يضيف هذا المستشار، أن أوباما كان يرفض سماع أي خبر يأتي من سوريا، حتى أنه طلب من مساعديه، عدم ذكر الأحداث في سوريا أمامه.
كان الدخول العسكري الروسي إثر زيارة قاسم سليماني لموسكو، الحدث الأبرز الذي أكد التواطؤ الدولي الكامل والمنسق لحماية الستاتيكو السوري برعاية إيرانية وروسية.
إسرائيل لم تكن بعيدة عن المشهد، وأميركا تركت لفلاديمير بوتين أن يتصرف، بعدما ضمنت الاثنتان التزام روسيا بحماية أمن إسرائيل، في غرفة عمليات روسية وإسرائيلية، تم عبرها تنسيق الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية التي تمددت على معظم مناطق سيطرة النظام.
حقق بوتين هدفه في إنشاء قاعدة بحرية في شرق المتوسط، وحققت إيران هدفها في الحفاظ على النظام كممر إجباري للوصول الى المتوسط، وأطلقت إسرائيل العنان لنشاطها الجوي في سماء سوريا، أما سوريا فتحولت إلى مسرح عمليات متعددة الجنسيات، وتم تشريد شعبها إلى شتات كان أفظع من شتات نكبة عام 1948.
ابتلاع سوريا وتقاسم النفوذ فيها، بين إسرائيل وأميركا وروسيا وإيران، لم يكن إلا بداية للفوضى الدائمة، التي ستمتد إلى أكثر من بقعة في العالم.
لكن بعد كل تلك المقتلة، هل يمكن اعتبار سوريا الضحية الوحيدة لهذا الكونسورسيوم الدولي، غير العابئ بشعب تم تمزيقه وتشتيته في أصقاع الأرض؟
في الواقع أدى تمكين روسيا وإيران من سوريا، إلى كوارث متوالدة، وإلى استنساخ أزمات، كان بالإمكان تفاديها لو لم يسمح لروسيا بإنقاذ نظام الأسد.
كان بوتين قد اعتقد بأنه وبعد ابتلاع القرم وجزء من جورجيا دون أن تجرؤ الولايات المتحدة على إيقافه، أنه قادر على تكرار تجربة هتلر في نهاية الثلاثينات، حين قضم بولندا وفكك النمسا، لكنه بعد التدخل السهل في سوريا بات متأكداً من أن القوة العظمى نائمة، ولن يوقظها ابتلاع أوكرانيا، فلم يتردد وكانت الحرب، التي أجبرت الغرب على استعادة دور تشرشل، حين وقف بوجه الغزو الألماني لبريطانيا.
ابتلاع سوريا وتقاسم النفوذ فيها، بين إسرائيل وأميركا وروسيا وإيران، لم يكن إلا بداية للفوضى الدائمة، التي ستمتد إلى أكثر من بقعة في العالم، معززاً بتحالف روسيا ومحور الممانعة بقيادة طهران، الذي يقوم بما عليه في الإقليم، ناشراً الفوضى واللاستقرار في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وربما الأردن.
هي حرب باردة مستمرة، ستشهد جولات من السخونة الفائقة، كل ذلك يجري على وقع تفكك منظومة الانتظام الدولي، ولقد كانت مأساة سوريا، المثل الأوضح، على غياب أية مرجعية قادرة على لجم العنف، واستباحة الدول الوطنية، والإطاحة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، في مواجهة سلوك القمع والاستبداد.