من الواضح أن تعيين محمد غازي الجلالي رئيسًا للوزراء لتشكيل حكومة جديدة في سوريا، بموجب مرسوم رئاسي من رئيس النظام السوري بشار الأسد، لن يكون كافيًا لإخراج البلاد من أزماتها المتعددة.
فالتحديات الاقتصادية، الاجتماعية، والأمنية التي تواجهها سوريا تفوق قدرة أي حكومة على حلها دون إجراء إصلاحات سياسية عميقة.
يواجه النظام في دمشق أزمة وجودية لن يتمكن من تخطيها طالما استمر في نهجه الحالي الذي يعتمد على القمع الداخلي والدعم الخارجي دون تقديم حلول فعلية لمعاناة الشعب.
ويأمل سكان مناطق النظام السوري، كالغريق المتعلق بقشة، أن يتمكن الجلالي من إخراجهم من مستنقع الأزمات الاقتصادية، وانهيار الليرة السورية، وشبح الغلاء، نظرًا لاعتبارهم أن رئيس الحكومة المكلف يتمتع بخبرة واسعة في مجالات الهندسة، الإدارة، والاقتصاد. هذا الأمر يعزز الآمال في قدرته على مواجهة التحديات الهائلة التي تنتظره وإحداث التغيير المنشود، وقد يكون كسابقيه.
إن تعيين محمد غازي الجلالي رئيسًا للوزراء في سوريا بدلًا عن حسين عرنوس يعد خطوة ذات دلالة سياسية عميقة، تؤكد على استمرار نظام الأسد في اتباع نفس النهج السياسي القديم الذي يضمن استمراريته في السلطة دون السعي لإجراء تغييرات جوهرية في بنية النظام أو الاستجابة لمطالب الشعب السوري بالتغيير الحقيقي.
يأتي هذا التعيين كنتيجة لاجتماعات سياسية داخلية بين الأسد وقيادة حزب البعث، مما يعكس تمسك النظام بالدوائر الضيقة والمحافظة على نفس الوجوه التي تسهم في استمراره. هذه الاستراتيجية تعزز من سيطرة الأسد على المؤسسات الحكومية، مع تجاهل واضح للأزمة السياسية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري منذ اندلاع الثورة السورية في 2011.
من الناحية الاقتصادية، تعاني سوريا تحت حكم نظام الأسد من انهيار اقتصادي حاد، حيث تشير الأرقام إلى أن أكثر من 70% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، بينما تجاوزت البطالة الفعلية نسبة 37%. ويصل معدل البطالة المقنعة إلى نحو 85%، مما يعني أن أغلبية القوى العاملة لا تسهم فعليًا في الإنتاج الاقتصادي. في ظل هذه الظروف، لا يمكن لأي حكومة جديدة أن تحدث تحولًا اقتصاديًا جوهريًا دون تغييرات سياسية وإصلاحات عميقة.
من المتوقع أن يتوجه الجلالي نحو تنفيذ سياسات الخصخصة التي يروج لها النظام، وهذه الخصخصة، تحت سيطرة النظام، ستكون موجهة في المقام الأول لخدمة مصالح النخبة الحاكمة والشركات المرتبطة بها.
إلى جانب ذلك، تواصل حكومة النظام الحالية الاعتماد على المساعدات الاقتصادية من إيران وروسيا، مما يزيد من حجم الديون ويضع البلاد في حالة من التبعية الاقتصادية والسياسية لهذين الحليفين. يظل الاقتصاد السوري مرتهنًا للديون الخارجية التي تُستخدم بشكل رئيسي لدعم النظام عسكريًا وسياسيًا وليس لتحسين الأوضاع الاقتصادية أو معيشة المواطنين.
من المتوقع أن يتوجه الجلالي نحو تنفيذ سياسات الخصخصة التي يروج لها النظام، وهذه الخصخصة، تحت سيطرة النظام، ستكون موجهة في المقام الأول لخدمة مصالح النخبة الحاكمة والشركات المرتبطة بها. وستعزز الخصخصة من هيمنة النظام على القطاعات الحيوية، مما يتيح له الاستفادة المالية على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة. إن عمليات الخصخصة في سوريا لا تحمل رؤية اقتصادية شاملة لتحسين الأوضاع الاقتصادية، بل هي أداة إضافية لتعزيز قبضة النظام على الاقتصاد، مما يزيد من عدم المساواة الاقتصادية ويُعمق الفجوة بين النخب السياسية والاقتصادية وبقية الشعب.
من القضايا الرئيسية التي تواجه الحكومة الجديدة هي السيطرة على الموارد الطبيعية، التي أصبحت تحت سيطرة روسيا وإيران، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في الشمال الشرقي.
وهذه السيطرة الخارجية على حقول النفط والغاز، بالإضافة إلى المحاصيل الزراعية الرئيسية مثل الحبوب، تؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وتجعل من الصعب على أي حكومة جديدة تحقيق انتعاش اقتصادي.
باعتباره متخصصًا في النزاعات وإدارة التفاوض، قد يحاول الجلالي توسيع علاقات النظام مع هذه القوى الدولية، لكنه لن يتمكن من تحرير الاقتصاد السوري من هذه السيطرة دون تقديم تنازلات سياسية ضخمة، وهي أمور لا يبدو أن النظام مستعد لتنفيذها.
ومن بين أكثر الملفات حساسية التي تواجه الحكومة الجديدة، تحسين الظروف المعيشية للسوريين، خاصة في مناطق النظام مثل اللاذقية وطرطوس والسويداء التي تعاني من فقر مدقع وغياب الخدمات الأساسية. وعلى الرغم من المطالب الملحة بزيادة الرواتب وتحسين الظروف الاقتصادية، إلا أن الظروف الاقتصادية الراهنة تجعل من الصعب على أي حكومة جديدة الوفاء بهذه المطالب.
يعاني السوريون في هذه المناطق من نقص في المواد الأساسية وارتفاع في معدلات الجريمة، ويعيشون تحت وطأة تضخم اقتصادي يتجاوز 100%. فارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائية يجعل من أي وعود بتحسين الوضع المعيشي مجرد شعارات فارغة دون قدرة على التنفيذ الفعلي.
رئيس الحكومة الجديد لن يكون بيده أي أدوات للنهوض الاقتصادي في ظل استمرار الظروف السابقة، ولا يمكن لأي حكومة جديدة، بغض النظر عن الأسماء أو الكفاءات، تحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي دون تغيير سياسي جذري.
وتتراوح ردود الفعل بين السوريين في مناطق النظام بين التفاؤل الحذر واليأس العميق، إذ يرى البعض أن تغيير الوجوه في الحكومة ليس إلا عملية تجميلية، وأنه لن يحدث فرقًا ملموسًا في ظل استمرار نفس السياسات الاقتصادية والسياسية، بينما آخرون يرون أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الأشخاص، بل في النظام ككل.
على وسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت العديد من التعليقات التي تعبر عن الإحباط، مثل "تيتي تيتي مثل ما رحتي مثل ما جيتي"، مما يعكس شعورًا عامًا بأن التغيير الحكومي لن يغير شيئًا في الواقع المعيشي الكارثي.
وفي نهاية المطاف، يبدو أن الجلالي سيكون مثل رؤساء الحكومة السابقين فاقدًا للقدرة على التداخل في الملف الاقتصادي، وهذا سيكون حال أكبر خبير اقتصادي تضعه مكانه. فأمراض النظام الاقتصادية هي كالمرض العضال ليس له دواء، وكل المؤشرات تذهب بالمحللين والخبراء الاستراتيجيين إلى أنّ حياة السوريين ماضية من سيئ إلى أسوأ مع انتهاء كل يوم واقتراب كل غد، وسط غياب تام للحلول وافتقار نظام بشار الأسد للسيطرة على العوامل المؤثرة.
وأهم تلك العوامل هي: سيطرة روسيا وإيران على الموارد الاقتصادية المهمة حرصًا منهما على تحصيل ديونهما على النظام الناجمة عن التكاليف التي دفعاها في الحرب. حيث تطالب إيران بمبلغ 50 مليار دولار، في حين أن روسيا لم تعلن عن رقم الديون التي لها على النظام، لكن وحسب عدد من الدراسات والتقارير، فإن معدل النفقات العسكرية الروسية في سوريا يبلغ بين 3 إلى 4 ملايين دولار يوميًا. إضافة إلى الدعم بالسلاح الذي قدمته للنظام منذ لجوئه إلى استخدام الحل العسكري في البلاد، حيث لم تقبض ثمن تلك الأسلحة وحولتها إلى ديون طويلة الأجل، أو اختارت تحصيلها من خلال مزايا أو اتفاقيات تضمن بها مصالحها ووجودها في المنطقة.
ولا يمكن كذلك تجاهل العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية، وفي مقدمتها "قانون قيصر"، الذي كان له تأثير كبير على حصار النظام وانهيار الليرة السورية. يضاف إلى ذلك تبديد أموال البلاد بسبب النفقات العسكرية، وهروب رؤوس الأموال بشكل كبير خارج سوريا بحثًا عن مكان آمن للاستثمار، بسبب مافيات الفساد التي تأخذ إتاوات من أصغر تاجر إلى أكبر صناعي. بالإضافة إلى خروج 70% من النفط خارج سيطرة النظام في مناطق سيطرة "قسد"، وكذلك أهم أراضي القمح والقطن التي توجد في تلك المنطقة.
ولا يمكن تجاهل أيضًا خروج معظم المعابر البرية خارج أيدي النظام السوري رغم المحاولات لترتيب اتفاق مع تركيا بدعم روسي، ولا ننسى خروج الخبرات من كل العلوم من مناطق النظام، وهذا له أثر كبير أيضًا على تردي الاقتصاد.
ووسط كل ذلك، فإن رئيس الحكومة الجديد لن يكون بيده أي أدوات للنهوض الاقتصادي في ظل استمرار الظروف السابقة، ولا يمكن لأي حكومة جديدة، بغض النظر عن الأسماء أو الكفاءات، تحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي دون تغيير سياسي جذري يشمل تحقيق العدالة الاجتماعية، إنهاء الفساد، وفتح المجال أمام عملية سياسية شاملة تنهي الحرب الأهلية المستمرة منذ أكثر من عقد.