تتسارع التطورات السياسية في المنطقة باتجاه التضييق على إيران، ويقود الإسرائيليون تحركات وجهوداً حثيثة لبناء تحالف إقليمي دفاعي مع الدول العربية شبيه بحلف "الناتو" مع اقتراب انفراجة في محادثات فيينا بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، وبالتزامن مع الحرب الروسية في أوكرانيا التي خلطت الأوراق وشكلت تربة خصبة لتفجير تحالفات جديدة تمر بمرحلة المخاض.
حلم الإسرائيليين أن يدفنوا القضية الفلسطينية ويقلبوا المحيط المعادي إلى حلفاء والعواصم العربية إلى مضافات تشرع أبوابها لاستقبال مسؤولي تل أبيب بحفاوة وترحيب.
ومع اقتراب توقيع واشنطن وطهران على اتفاق بشأن العودة إلى الاتفاق النووي المبرم في 2015، يزداد تسخين الأجواء التي تعمل عليها تل أبيب لتشكيل تحالف مع دول عربية.
وتبدو اليوم الفرصة سانحة لإسرائيل أكثر من أي وقت مضى لإنقاذ خطوطها الحمراء في منع حيازة طهران للسلاح النووي وإبعاد الحرس الثوري وتوابعه من حدودها، الأمر الذي ينطبق على السعودية والإمارات مع الحوثيين.
ناتو عربي إسرائيلي
التوجه الإسرائيلي لبناء تحالفات، كانت قبل سنوات مخالفة للتوقعات الجيوسياسية، مع دول عربية، بدأ منذ التصدي لثورات الربيع العربي، وكانت الساحة السورية ملعباً مهدت من خلاله تل أبيب للترويج بأنها رأس الحربة الذي يقف بوجه التهديد الإيراني.
والحديث الإسرائيلي عن ناتو عربي إسرائيلي ليس جديداً، وبدأ فعلياً مع اتفاقيات التطبيع المسماة باتفاقيات "أبراهام"، ووضع حجر أساسها نفتالي بينيت في زيارته للإمارات في كانون الأول/ديسمبر الماضي، ومن ثم في زيارة مماثلة للبحرين الشهر الماضي التي سبقه إليها وزير دفاعه بيني غانتس على متن طائرة عسكرية ذات رمزية.
وقتذاك أعلنت تل أبيب أن غانتس وقع مع البحرينيين أول اتفاقية دفاعية مع دولة عربية، وكانت المرة الأولى من نوعها التي تعبر فيها طائرة عسكرية إسرائيلية الأجواء السعودية، ويشار إلى أن الطائرة كانت مملوكة لمصر وهي التي أقلت السادات في السبعينيات إلى إسرائيل لتوقيع معاهدة السلام قبل أن تنقل ملكيتها إلى سلاح الجو الإسرائيلي.
كما أن انتقال إسرائيل إلى نطاق عمليات قيادة القوات المركزية الأميركية، التي مقرها مياه الخليج العربي، مطلع العام الماضي، يعد خطوة استباقية وتمهيدية لانخراط إسرائيلي عسكري مع الدول العربية.
ويبقى الترويج الإسرائيلي لتحالف إقليمي ذي طابع أمني دفاعي قائم على مواجهة إيران ومغلف بالمصالح الاقتصادية، مجرد فكرة إسرائيلية أساسها الدخول إلى الحضن العربي الضعيف والمترهل، بالعزف على وتر التحذير من الخطر الإيراني.
ولكن الاستجابة الإماراتية والسعودية للتوجه الإسرائيلي، لا سيما بعد مغادرة ترامب وتسلم بايدن للسلطة في البيت الأبيض، تبقى مرهونة بحصولهما على ضمانات أميركية، ووفقاً لتقديرات المعلقين الإسرائيليين فلن تقدم دول الخليج على الانخراط في مثل هذه الخطوة من دون المظلة الأميركية.
كما يبقى التحالف الدفاعي حبيس الغرف المغلقة ما لم تتضمنه البيانات الختامية الرسمية لاجتماعات الإسرائيليين المتكررة مع الزعماء العرب، إلا أن المحللين الإسرائيليين يكثرون من الترويج لاقتراب هذه الخطوة.
قمة شرم الشيخ
بين أبوظبي والمنامة وشرم الشيخ، تسوّق تل أبيب لمشروعها بضرورة إنشاء تكتل دفاعي إقليمي لمواجهة تهديدات إيران ومنظومتها الصاروخية وصواريخها الباليستية وطائراتها المسيرة التي تستخدمها إيران والحوثيون.
وعلى الرغم من أن مشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، في قمة شرم الشيخ الثلاثية مع عبد الفتاح السيسي ومحمد بن زايد لم تكن مفاجئة بقدر ما سبقها من زيارات متكررة للإمارات والبحرين وشرم الشيخ نفسها قبل ستة أشهر، إلا أنها لم تكن معلنة مسبقاً.
ووصل بينيت إلى شرم الشيخ، الإثنين الماضي، وبالتزامن مع وجود بن زايد فيها، وبات الاثنان ليلة إضافية على غير المعتاد في مثل هذه الاجتماعات.
ويلف الغموض قمة شرم الشيخ في كثير من الجوانب، لا سيما أن الاجتماع الثلاثي خُطط له أن يكون سرياً، إلا أن المصريين هم الذين كشفوا عنه، وفقاً لمصدر دبلوماسي إسرائيلي.
وبحسب ما هو معلن، كانت القمة لبحث التعاون الإقليمي في الملف النووي الإيراني والتداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا، بعد التقارير التي تفيد باقتراب التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى في فيينا، واستعداد إدارة بايدن لإزالة "الحرس الثوري" الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية.
أما صحيفة "هآرتس" فإنها وصفت الاجتماع الثلاثي بأنه جزء من محاولة لخلق تحالف بين دول كانت متخاصمة في السابق، بينها مصر والأردن ودول الخليج وتركيا وإسرائيل، بدعم أميركي، خاصة ضد إيران.
وذكر موقع "واللا" الإخباري الإسرائيلي، أن فكرة عقد القمة الثلاثية مع السيسي طرحت لأول مرة خلال اجتماع بينيت بولي عهد الإمارات، في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
و في 15 شباط/فبراير الماضي، تحدث نفتالي بينيت علانية خلال زيارته للبحرين، عن تكتل إقليمي جديد بين إسرائيل ودول عربية ضد التهديدات المشتركة.
وقال بينيت حينذاك إن اجتماعه مع العاهل البحريني يأتي في إطار الجولة الأولى من الاجتماعات مع قادة دول المنطقة، بمن فيهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله وولي العهد في الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد.
اصطفافات الحرب الأوكرانية
تعد قمة شرم الشيخ بمنزلة نادٍ لزعماء ما يمكن تسميته دول "الخط الثالث"، في ظل تجدد الاصطفاف العالمي وعمليات الفرز التي أحدثتها حرب بوتين في أوكرانيا لوقف تمدد الغرب إلى حدوده.
ما يجمع دول هذا الخط أنها من حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة، ولكن يزعجهم التراجع الأميركي في المنطقة وخاصة الانسحاب من أفغانستان، لذلك لم تقف فعلياً مع بايدن ضد بوتين في الحرب الحالية.
يضم "الخط الثالث" إسرائيل والإمارات والسعودية، وتركيا التي وجدت نفسها في تفاعل ديناميكي مع بوتين في العديد من الساحات الدولية في ظل جفاء الغرب والناتو، وإن كانت أنقرة بعيدة عن هذا التحالف وطبيعته.
وما يميز هذه الدول أنها اتخذت مواقف شكلية ضد الغزو الروسي ولم تنضم بشكل فعلي إلى الغرب في مواجهة بوتين وفرض العقوبات عليه ومد الأوكرانيين بالسلاح.
وبحسب صحيفة "هآرتس"، فإن من بين أهداف قمة شرم الشيخ كان إيجاد حل لمسألتين اقتصاديتين عالمياً: الاعتماد على النفط الروسي والنقص في القمح.
وأشارت "هآرتس" إلى أن إسرائيل تحاول إقناع الإمارات والسعودية بزيادة إنتاج النفط، في سبيل تقليص اعتماد دول العالم على النفط الروسي والإيراني.
وفي هذا السياق، تشهد علاقات الرياض وأبو ظبي مع واشنطن توترات في الأيام الأخيرة، على خلفية الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية على سوق النفط العالمي، وتمثلت في رفضهما الاستجابة لضغوط الإدارة الأميركية في زيادة إنتاج النفط لمنع ارتفاع أسعاره عالمياً.
ويحاول نادي الخط الثالث في شرم الشيخ لعب ورقة ضغط لمواجهة جفاء إدارة بايدن لحلفاء واشنطن في المنطقة، وعلى وجه الخصوص الإمارات، وانتقاداته المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان خلافاً لسلفه ترامب.
وتجدر الإشارة إلى أن تفضيل البيت الأبيض لدولة قطر، وتصنيفها حليفاً رئيسياً من خارج حلف شمال الأطلسي، بالميزان الإماراتي الذي ما يزال معاديا للدوحة في الخليج يشكل أحد دوافع تحركات المجتمعين في شرم الشيخ، هذا فضلاً عن عرقلة إدارة بايدن إتمام صفقة بيع طائرات الـ "F-35" لأبو ظبي كما كان مخططا من عهد ترامب.
أما المملكة العربية السعودية فلا تخفي انزعاجها من تساهل واشنطن مع الإيرانيين، وإلغاء قرار تصنيف جماعة الحوثي من قوائم الإرهاب، الأمر الذي أدى إلى فتور العلاقات بين الرياض والإدارة الأميركية الحالية.
بالنسبة لمصر، كان من اللافت انفتاح السيسي خلال العامين الأخيرين على تل أبيب، بهدف التقرب إلى الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض، إضافة إلى مصالح اقتصادية تمثلت في التعاون الإقليمي في مجال تصدير الغاز الطبيعي.
انتقال إسرائيل إلى نطاق القيادة المركزية الأميركية في الخليج
شكّل انتقال إسرائيل إلى نطاق القيادة الأميركية المركزية، بقيادة الأسطول الخامس ومقره البحرين، نقطة مهمة لانخراط إسرائيل العسكري مع دول المنطقة، ويفتح الباب أمام إمكانية تحالف إقليمي مع الدول العربية، لا سيما المُطبعة منها، ضد التهديدات المشتركة المتمثلة بإيران.
وكانت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) نقلت إسرائيل، كإجراء تنظيمي جديد، من نطاق عمليات القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا (EUCOM يوكوم) إلى قيادة القوات المركزية الأميركية (CENTCOM سنتكوم)، مطلع العام الماضي.
انعكست هذه الخطوة في إجراء مناورات عسكرية مشتركة، بحرية وجوية، غير مسبوقة، شاركت فيها إسرائيل ودول خليجية، وكان اللافت حضور قائد سلاح الجو الإماراتي مناورات "العلم الأزرق" الجوية الإسرائيلية، إضافة إلى مناورات البحر الأحمر.
أين سوريا؟
حمل بن زايد معه إلى طاولة شرم الشيخ ملفي التطبيع العربي والإسرائيلي مع نظام الأسد، وكشفت التقارير الإسرائيلية أن الإمارات تحاول إقناع تل أبيب بالتعامل مع الأسد، لتقليص نفوذ إيران في المنطقة وإبعادها عن الحدود الإسرائيلية.
وتعليقاً على القمة الثلاثية، كشف محلل الشؤون العربية في القناة 12 الإسرائيلية الخاصة، إيهود يعاري، وجود مخطط إماراتي للعب دور الوساطة بين إسرائيل ونظام الأسد وحزب الله، وتشكيل تحالف إقليمي ضد التهديدات الإيرانية.
وبعد انطلاق ثورات الربيع العربي، شكلت الساحة السورية مطبخاً لإسرائيل التي أظهرت على العلن تبني سياسة النأي عن النفس، ولكنها فعلياً حسمت أمرها مبكراً بتفضيل نظام الأسد على معارضيه، رغم أنها كانت أمام فرصة للتخلص منه ومن إيران واستبداله بنظام موال للغرب، وفقاً لمركز أبحاث دراسات الأمن القومي "INSS" التابع لجامعة تل أبيب.
ولم تتأثر إسرائيل بالحرب السورية، التي لم تهدد أمنها القومي بالمعنى الفعلي، بل استثمرت حالة عدم الاستقرار هذه لتحقيق مكاسب حيوية وسياسية، فقد استفادت من خلق وضع إقليمي جديد يخدم موقعها الجيوسياسي في المنطقة، كما تخلصت من خوفها من الانسحاب من مرتفعات الجولان.
كما أتاحت ساحة الصراع السورية المتشابكة والمعقدة الفرصة لتل أبيب لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، بالتركيز على محاربة الوجود الإيراني.
وخلال فترة أوباما كانت الأيادي الإسرائيلية واضحة في الصفقة المشينة في أعقاب مجزرة الكيماوي في 2013، تراجع خلالها أوباما عن ضرب الأسد واكتفت بسحب ترسانته من الأسلحة الكيميائية.
في حين شكلت ولاية ترامب العصر الذهبي لإسرائيل، لما قدمه من "هبات جليلة" لتل أبيب، من بينها اتفاقيات "أبراهام" والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران واغتيال قاسم سليماني، فضلا عن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل.
ومع قدوم بايدن إلى البيت الأبيض وإعلان نيته العودة إلى الاتفاق النووي، تشهد هذه الأيام تحقيق هذا الوعد، الذي تحاربه إسرائيل بشدة، وتعلن بأنها ستوقفه بـ "أي ثمن".
وفي غضون ذلك، استثمرت تل أبيب جهودا كبيرة في مواجهة إيران في سوريا من خلال "المعركة بين الحروب"، والمناوشات الجوية والبحرية والسيبرانية، وزيادة نشاط التسليح لمنع إيران من الاقتراب إلى مكانة التفوق الإسرائيلي المكفول أميركياً.