هل تلتحق أنقرة بالخنادق الإسرائيلية – الإيرانية؟ لماذا تفعل ذلك وما هي مصلحتها في تأجيج صراع إقليمي حذرت منه باستمرار وهي تبني مداميك سياستها الخارجية منذ عقود؟ وهل تراجعت فرص البحث عن حلول دبلوماسية تحول دون وقوع الانفجار الكبير الذي سيطول مصالحها ونفوذها وتمنح البعض ما يريده باتجاه جرها إلى المصيدة الإقليمية التي نجحت في تجنبها حتى اليوم؟
بدلت تركيا أكثر من مرة طريقة تعاملها مع الملفات الإقليمية في العقود الثلاث الأخيرة: الشرق الأوسط الجديد، الربيع العربي، التوازنات الحساسة في الشرق الأوسط، مصالح تركيا في الدائرتين الثانية والثالثة المحيطة بالدائرة الجغرافية الأولى في المنطقة، مصادر الطاقة والثروات الطبيعية، المواقع البحرية الاستراتيجية والطرق التجارية العابرة للقارات كانت دائما بين أبرز العوامل التي أسهمت في رسم معالم سياستها الإقليمية.
فتحت تحولات المشهد الإقليمي والدولي بعد العام 1990 ومسارعة الولايات المتحدة الأميركية لإعلان تفردها في قيادة النظام العالمي الجديد، الأبواب أمام تركيا والعديد من الدول الفاعلة في الإقليم لمراجعة مواقفها وسياساتها والاستعداد للتعامل مع المتغيرات الحاصلة من أجل حماية مصالحها ونفوذها. عارضت أنقرة السياسات الأميركية في أكثر من مكان وتبنت مواقف انفتاحية على خصوم وأعداء واشنطن رغم وجودها تحت سقف واحد معها في الناتو. تضاربت مصالح البلدين بسبب سياسات إسرائيل وممارساتها الإقليمية، لكنها لم تصل إلى مستوى القطيعة. فهل تذهب هذه المرة باتجاه آخر نتيجة التوتر الإقليمي الحاصل الذي تحمّل أنقرة المسؤولية فيه لواشنطن بسبب الغطاء السياسي والعسكري والمادي الذي توفره لتل أبيب؟
أوجز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موقف بلاده الحالي حيال تعقيدات المشهد الإقليمي بعد استقباله الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر في أنقرة قبل أيام بقوله "إن إسرائيل وعبر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، أظهرت مرة أخرى أنها لا تنوي التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، وأنها تسعى إلى زيادة التوتر في المنطقة". لكن أردوغان أعلن " أن أنقرة تواصل العمل من أجل حل يرسي السلام والهدوء الدائمين في الإقليم، وأنها تعتزم بالتعاون مع قطر لزيادة الجهود الرامية لتحقيق نتائج في هذا الصدد"، مشدداً على "ضرورة اتخاذ المجتمع الدولي خطوات فعالة لوقف النبرة العدوانية الإسرائيلية المتصاعدة في الآونة الأخيرة".
لا رغبة تركية للالتحاق بالجبهات إذ إن الهدف هو رفع مستوى جهود تأمين السلام والاستقرار في المنطقة. ودعوة المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته باتجاه ردع إسرائيل.
موقف تركيا في مواجهة حكومة نتنياهو وممارساتها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والتصعيد ضد تل أبيب سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا شيء، وإيصال الأمور إلى درجة الانضمام إلى إيران في خندق واحد إذا ما قررت الأخيرة الذهاب إلى المواجهة العسكرية مع إسرائيل شيء آخر.
قناعة كثيرين في الداخل التركي هي أن ما يدور اليوم لا يتعلق بغزة والموضوع الفلسطيني وحده، بل بوجود مخطط لتوريط تركيا في حرب إقليمية من خلال دفعها نحو دخول الحرب إلى جانب طرف على حساب طرف آخر ثم تتصالح الأطراف المتنازعة على حساب تركيا ومصالحها في الإقليم.
قررت أنقرة الالتحاق بموكب الدول التي تقاضي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية وأعلن وزير العدل التركي، يلماز تونج، أن الملف الذي قدمته أنقرة إلى محكمة لاهاي يتضمن كافة الأدلة والبراهين التي تثبت انتهاك إسرائيل لاتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بجريمة الإبادة الجماعية.
من هنا، فإن تحميل نتنياهو وحكومته مسؤولية الجرائم التي يرتكبونها في قطاع غزة شيء، والالتحاق بعملية اصطفاف إقليمي إلى جانب إيران يقلب كل حسابات وخطط أنقرة في الإقليم رأسا على عقب شيء آخر.
لذلك سيكون هناك دوافع سياسية واقتصادية وأمنية كثيرة ستضعها أنقرة في طليعة أسباب تبني أي موقف إقليمي جديد حيال تطورات المشهد والسيناريوهات والاحتمالات في المنطقة:
- وضعها الاقتصادي الصعب الذي تعيشه منذ سنوات وارتدادات خياراتها السياسية والعسكرية على هذا الملف ورغبة البعض في تحريك هذه الورقة ضدها في الداخل والخارج.
- إصرار أميركا على التمسك بتوفير الدعم المادي والعسكري والغطاء السياسي لإسرائيل رغم كل ممارساتها في قطاع غزة وإصرارها على توسيع رقعة الجبهات في الإقليم.
- ارتدادات أي انفتاح سياسي – عسكري يقربها من إيران وحزب الله وجماعات الحوثي ويعرض خياراتها الاستراتيجية مع الغرب للخطر.
- الفصل بين سياسة تركيا الفلسطينية وبين اندلاع الحرب الإسرائيلية الإيرانية بسبب ما يجري في قطاع غزة، وبين احتمال وجود القوات التركية في خندق واحد مع إيران وحلفائها في مواجهة إسرائيل وحلفائها.
- تعريض مصالحها الاستراتيجية مع الغرب للخطر أكثر من ذلك خصوصا بسبب تقاربها وانفتاحها الواسع على روسيا في الأعوام الأخيرة. مما يعني أن الشراكة التركية الغربية ستكون أمام امتحان مكلف في حال تعرضها لانتكاسة استراتيجية، خصوصا تأثير ذلك على العلاقة الأميركية التركية تحت سقف حلف شمال الأطلسي.
- وقوف العديد من العواصم العربية والغربية التي قررت أنقرة مراجعة سياستها حيالها في الأعوام الأخيرة على الحياد حيال ما يجري.
قناعة كثيرين في الداخل التركي هي أن ما يدور اليوم لا يتعلق بغزة والموضوع الفلسطيني وحده، بل بوجود مخطط لتوريط تركيا في حرب إقليمية من خلال دفعها نحو دخول الحرب إلى جانب طرف على حساب طرف آخر ثم تتصالح الأطراف المتنازعة على حساب تركيا ومصالحها في الإقليم.
لا بد من إيقاف نتنياهو عند حده كما تردد القيادات السياسية التركية ومنعه من إشعال فتيل الحرب الإقليمية، التي قد تتحول إلى حرب عالمية ثالثة كما يقول وزير الخارجية التركي هاكان فيدان.
جر تركيا إلى مستنقع من هذا النوع سيتركها وسط أزمة مفتوحة مع إيران وإسرائيل في المنطقة، تدفع لإضعاف الداخل التركي ونسف منظومة العلاقات الإقليمية التي بنتها أنقرة بطابع سياسي واقتصادي وأمني وبأكثر من اتجاه. وسيعني منح أكثر من لاعب إقليمي ودولي فرص تجاوز " العقبة التركية " في الشرق الأوسط والبلقان وإفريقيا وشرق المتوسط وآسيا الوسطى وبحر إيجه باتجاه رسم معالم سياسات ومصالح جديدة على حساب أنقرة.
لا بد من إيقاف نتنياهو عند حده كما تردد القيادات السياسية التركية ومنعه من إشعال فتيل الحرب الإقليمية، التي قد تتحول إلى حرب عالمية ثالثة كما يقول وزير الخارجية التركي هاكان فيدان. من يريد تجنيب المنطقة ويلات الحرب مثل تركيا، لن يدخل في لعبة تحويل رسائله التصعيدية باتجاه تل أبيب إلى اصطفاف إقليمي بجانب إيران وحزب الله وجماعات الحوثي في اليمن ويلتحق بخنادق هذا التحالف متجاهلا خياراته وسياساته التي بناها منذ عقود مع الغرب تحت سقف حلف شمال الأطلسي والعلاقات السياسية والتجارية مع أوروبا التي تجاوزت 100 مليار دولار في العام المنصرم. ولماذا سيفعل ذلك متجاهلا التوازنات الإقليمية والدولية الحساسة القائمة والتي قد تفقده كثيرا من الفرص والمساحة السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة؟ ألا يوجد بديل آخر غير خيار الحرب مع إسرائيل لردعها؟
ستتركز الضغوطات التركية على العواصم الغربية وواشنطن تحديدا لمراجعة مواقفها وسياساتها، لكن حديث الوزير فيدان وهو يقول إن تل أبيب جعلت من واشنطن رهينة في الإقليم يحتاج إلى مراجعة وتعديل أيضا، طالما أن واشنطن حركت سفنها وآخر منتجاتها الحربية باتجاه شرق المتوسط. من يقود هو ليس إدارة بايدن التي استمع كونغرسها وقوفا على الأقدام لخطاب نتنياهو مؤخرا، بل أجهزة الدولة العميقة الأميركية التي يديرها اللوبي الإسرائيلي.
ما يقلق البعض في الإقليم ويدفعه للتمسك بسيناريو الحرب العالمية الثالثة التي سيكون الشرق الأوسط مركزها هذه المرة بعيدا عن أوروبا التي تحملت مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الأولى والثانية، هو التهور الإسرائيلي اللامحدود والمدعوم من قبل الحليف الأميركي بلا حدود. لذلك علينا ألا نعاتب كثيرا الشاشات التركية التي تتنافس على استضافة "خبراء" الشرق الأوسط الذين يلوحون بعصيان طويلة أمام خرائط الإقليم وهم يتحدثون علن الاصطفافات والجبهات التي ستشتعل وما قد تجنيه تركيا من فوائد على حساب الأضرار التي قد تلحق بها، تماما كما حدث عشية العام 2003 عند الاحتلال الأميركي للعراق.
لن تتورط تركيا بشكل مباشر في جبهات القتال إذا ما حصلت المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، لأن ارتدادات ذلك عليها ستكون أكثر كلفة من ارتدادات عدم تورطها في حرب قد نعرف متى تبدأ لكننا لا نعرف متى وكيف تنتهي.