لم تشهد تركيا خلال عقد هذا العدد الكبير من الحرائق التي تندلع خلال أيام فقط في أكثر من مدينة وقضاء وغابة ومناطق حراجية. الإحصاءات تقول إن معدل الحرائق السنوي في تركيا لا يتجاوز 10 آلاف هكتار من الغابات. الأرقام هذه المرة كانت موجعة ومحيرة وتعكس حجم الكارثة.
بدأت الحرائق في غابة بمنطقة شلالات منفغات بمحافظة أنطاليا، قبل أن تمتدّ إلى قرى مجاورة، لتتوالى في الأيام الأخرى في غابات بمدن أنطاليا وأضنة ومرسين وآيدن وموغلا، بالقرب من المواقع السياحية المطلة على بحري إيجة والبحر المتوسط في جنوب تركيا.
ليلة الأمس وفي اليوم العاشر لاندلاع الحرائق في العشرات من المناطق التركية تراجع الخطر وأعلن عن استمرار 13 حريقا في 5 مدن تتواصل عمليات محاصرتها برا وجوا لإخمادها. توسعت رقعة النيران لتشمل 4 أماكن دفعة واحدة. زاد عددها وانتشرت بشكل سريع في غرب وجنوب تركيا. 222 حريقا تم إخماده في الفترة الواقعة بين 28 من تموز و6 من آب المنصرم حسب الإحصاءات الرسمية الأولى وبعد أكثر من 1600 طلعة جوية لطائرات ومروحيات تركية وأجنبية وجهود الآلاف من رجال الإطفاء والمتطوعين المدنيين بآلياتهم وعتادهم. كذلك تم إخلاء سكان 59 ناحية في 5 أقضية وتجهيز المئات من الخيم والكونتينرات والمطابخ السريعة لإطعام الآلاف واستقبال المنكوبين.
تركيا انقسمت إلى فريقين مرة أخرى في تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات
حصيلة الأضرار البشرية كما أعلنت حتى الآن هي 8 قتلى و820 مصابا. لا تقديرات مادية واضحة محددة بعد لكن الحديث يدور عن خسائر بعشرات الملايين من الدولارات وتلف الآلاف من الحيوانات والطيور واحتراق المئات من المنازل والمزارع والآليات وتضرر أكثر من 160 ألف هكتار من الأراضي. 13 مليون هكتار من الأراضي هي مناطق غابات في تركيا، ربعها ينتشر في مناطق الحرائق لذلك الأضرار كانت جسيمة. درجات الحرارة وشدة الرياح وسرعتها لعبت دورا كبيرا في اتساع رقعة النيران وانتقالها من مكان إلى آخر وتهديدها أمن مناطق سكانية سياحية معروفة في تركيا.
الفاجعة التي تم تجنبها في آخر لحظة كانت احتمال اندلاع النار في مفاعل موغلا لتوليد الطاقة
"محطة كمركوي الحرارية" حيث وصلت الحرائق إلى بعض أجزائها لكن تم إخمادها قبل وصول النيران إلى المبنى الرئيسي للمحطة ووحداتها والتسبب بكارثة كبيرة في المنطقة.
صحيح أن تركيا انقسمت إلى فريقين مرة أخرى في تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات. هناك من سينتقد طبعا طريقة الاستعداد لمواجهة كوارث من هذا النوع ويطالب بتحقيقات فورية حول ما جرى لكن هناك حقيقة أخرى تقول إن القيادات السياسية والأجهزة الرسمية والمؤسسات العسكرية والمدنية توحدت كلها لاستيعاب الكارثة والخروج منها بأقل الخسائر والأضرار.
الجميع أعطى الأولوية لمواجهة النيران وإخماد الحرائق وتخفيف أوجاع المتضررين دون التمييز بين بلدية أو منطقة أو مدينة وإلى أين تذهب المساعدات التي تم جمعها وفرق الإطفاء ووحدات المؤسسة العسكرية ومجموعات المتطوعين المدنيين. العديد من الوزراء توجهوا فورا إلى مناطق النيران المشتعلة وما زالوا هناك حتى اليوم. وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو مثلا غادر الوزارة منذ أيام وتمركز في مدينة أنطاليا يشرف على عمليات التوجيه والإغاثة ويدير عمليات تقديم الدعم من الخارج لتركيا. رؤساء بلديات المدن والأقضية المحسوبة على المعارضة كانت أيضا في حالة استنفار كامل أولويتها إخراج تلك المناطق من محنتها بأسرع ما يكون. العديد من نجوم الرياضة والفن والمجتمع سارعت للانتقال إلى أماكن الحرائق والمشاركة في عمليات التعبئة الشعبية وحملات توجيه المساعدات. هذا إلى جانب قرارات رسمية وحكومية بدعم وتخفيف أوجاع عاجلة بينها المساعدات المادية والعينية الفورية وتأجيل مواعيد دفع الرسوم والضرائب لسكان المناطق المتضررة.
الآن بدأت عمليات تبريد أماكن الحرائق وإحصاء الخسائر والأضرار تمهيدا لانطلاق عمليات التشجير والغرس وبناء ما تهدم لكنه بعد أيام قليلة فقط ستبدأ تفاعلات نقاشات ما جرى وتحمل المسؤولية والبحث عن أسباب وصول المشهد إلى ما هو عليه اليوم من خسائر وأضرار:
لماذا لم تتحرك طائرات هيئة الطيران الموجودة للمساهمة في إخماد النيران حيث يردد البعض في صفوف المعارضة أنه سيتم تحريك مسألة عدم الإقدام على استخدام الطائرات المخصصة لإخماد الحرائق، التابعة لـ "جمعية الطيران التركية"، وهي طائرات كلفت البلاد مبالغ طائلة من أجل استخدامها في مثل هذه الظروف الصعبة؟ هل ترددت أنقرة في طلب الدعم من الخارج أو قبوله مما زاد من حجم الكارثة؟ كيف سيكون شكل الدروس المستخلصة خصوصا وأن الخبراء يتحدثون منذ سنوات عن ضرورة الاستعداد لسيناريو زلزال إسطنبول وما قد يحمله معه؟ هل سيتم فتح الأراضي المتضررة أمام الإعمار حيث سيسارع بعض أصحاب النفوذ للاستفادة من الفرصة وتقديم عروض بناء مساكن وفنادق؟ كيف سيحسم النقاش حول إطلاق حملة "ساعدوا تركيا" التي فجرت سجالا واسعا واكبه تحرك القضاء لمعرفة ما جرى وهل هو عملية هدفها الإساءة إلى سمعة تركيا أم هو عمل إنساني وجداني فقط؟ تركيا تساعد العشرات من الدول منذ عقود لماذا لا تقبل المساعدة الفورية لمواجهة محنة آنية صعبة وحيث لا تتردد الدول الكبرى في الغرب بقبول ذلك عند الضرورة؟ هو السؤال الذي سيبحث عن إجابة في الداخل التركي أيضا. لكن القناعة الغالبة هي تحقيق إداري مستقل شامل ومفصل حول طريقة الاستعداد لكارثة من هذا النوع وخطط المواجهة المعدة وكيف سيكون شكل الدروس المستخلصة استعدادا للمرحلة المقبلة.
هناك من يقول إن الحرائق في غالبيتها كانت مفتعلة لضرب الموسم السياحي التركي الذي بدأ يسترد عافيته ونشاطه في مناطق الغرب والجنوب. وأنه من المستبعد أن تكون صدفة وقوع العشرات من الحرائق دفعة واحدة وفي مناطق محددة لها أهميتها السياحية والاقتصادية مثل أنطاليا التي وصلت الحجوزات الفندقية فيها إلى 100%، مع العلم أن المعالجة السريعة والفورية نجحت في حماية الموسم السياحي. الرئيس أردوغان قال في تصريحات أمام الإعلام إن "الموضوع ليس صدفة، فقد بدأت الحرائق في وقت واحد تقريبا في أكثر من محافظة في الجنوب التركي". وتبع ذلك تحليلا مهما لأحد الضباط المتقاعدين المعروفين جهاد يايجي يقول فيه "إن الهدف هو الموسم السياحي التركي الذي بدأ يسترد عافيته ونشاطه. هناك افتعال متعمد ومدروس وهناك أصابع داخلية وخارجية أقدمت على ذلك".
وقوف العديد من الدول سريعا إلى جانب تركيا في أزماتها كان ملفتا بقدر وقوف بعض وسائل الإعلام التحريضية ضدها
اليوم وعلى ضوء كل هذه التصريحات والتحقيقات الأمنية والعدلية هناك مؤشرات عديدة بينها عمليات توقيف واعتقال للعديد من الشبان بتهم التسبب في إشعال هذه الحرائق وتقارير أمنية واستخبارية ومعطيات أخرى تقول إن إشعالها كان متعمدا من قبل مجموعات إرهابية على رأسها عناصر حزب العمال الذي يحاول استغلال الفرص في مثل هذه الظروف في مواسم الصيف والسياحة والحر الشديد، وإن العديد من التنظيمات الإرهابية الناشطة في الخارج والمحسوبة على حزب العمال والكيان الموازي واليسار الماركسي المتشدد توحدت في شن الحملات ضد تركيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومحاولة إظهارها ضعيفة وعاجزة عن التعامل مع الكارثة.
وقوف العديد من الدول سريعا إلى جانب تركيا في أزماتها كان ملفتا بقدر وقوف بعض وسائل الإعلام التحريضية ضدها. باكو وموسكو والدوحة ودول أوروبا الشرقية كانت السباقة. العنوان الذي اختارته التايمز اللندنية لتوصيف ما جرى "تركيا تشتعل وأردوغان يتفرج من البعيد" كان كافيا لإبراز حجم الدعم البريطاني المقدم للحليف التركي مثلا!