تعاني معظم بلدان العالم من التضخم الاقتصادي، إن لم نقل جميع بلدان العالم، وقد يتبادر إلى الذهن أنَّ التضخُّم يتعلَّق بارتفاع الأسعار فحسب، إلا أنَّ التضخُّم يرتبط أيضاً بارتفاع الأجور في القطاعين العام والخاص، فبينما كانت أجرة العامل في سوريا قبل الحرب على سبيل المثال 200 ليرة سورية أصبحت وسطياً الآن عشرين ألف ليرة سورية، كما ارتفعت أسعار التكاليف التي تستلزمها الصناعة أو التي تتطلبها الزراعة وغيرها من القطاعات التي تستهلك المواد الأولية في عملية إنتاجها، وبالمقابل انخفضت القيمة الشرائية نتيجة الفجوة الحاصلة في السوق بين المنتج والمستهلك، بالإضافة إلى ذلك نذكر التضخُّم النقدي الذي نتج عنه طباعة العملات النقدية بفئات كبيرة، كطباعة ورقة (2000) ليرة سورية ثمَّ (5000) ليرة سورية في سوريا بعد انهيار الاقتصاد خلال سنوات الحرب المتتالية.
يعدُّ التضخُّم الاقتصادي حالة ديناميكية متغيرة وغير مستقرة ولها آثار كبيرة على حياة المواطنين بشكل أساسي
ومن هنا أصبح الفرد ملزماً بترتيب سلَّم أولوياته وفق ما يحتاجه، بمعنى أنَّ عليه أن يغطِّي أولاً حاجاته الضرورية، ثمَّ يتَّجه إلى الكماليات، مع العلم أنَّ القيمة المادية للحاجات الضرورية التي يستهلكها الإنسان أقل بكثير من القيمة المادية لتلك الكماليات، ويمكنه في حالات أخرى أن يستبدل طرق استخدامه للأشياء، فبدلاً من شراء كتاب بهدف القراءة الترفيهية، والذي يعدُّ من الكماليات، يمكن أن يقرأ الكتاب ذاته بالصيغة الإلكترونية مجاناً من الإنترنت كإجراء بديل لتغطية احتياجاته.
ويعدُّ التضخُّم الاقتصادي حالة ديناميكية متغيرة وغير مستقرة ولها آثار كبيرة على حياة المواطنين بشكل أساسي، إذ لم يعد يتناسب دخل المواطن مع مستويات الأسعار المطروحة في الأسواق، وعلى هذا يمكن أن نقسِّم المواطنين إلى قسمين؛ الأفراد الذين يعملون في القطاعات الخاصة، والذين هم أحسن حالاً نسبياً من أولئك الذين يعملون في القطاعات العامة، إذ قد يسدون هذه الثغرة الحاصلة نتيجة التضخم من خلال رفع أجورهم أو قيمة الخدمات التي يقدمونها للمستهلكين، بينما يبقى الأفراد الذين يعملون في القطاع العام يعانون من نتائج التضخم المرعبة على الرغم من الارتفاعات النسبية التي تقدِّمها الدولة لتحسين أجورهم، والتي تبقى دون المستوى المطلوب، فراتب الأستاذ الجامعي في سوريا الآن لا يتجاوز الـ (25) دولاراً في الشهر الواحد بينما العامل في القطاع الخاص يتجاوز هذا الرقم بكثير، وقد قامت بعض الدول مثل تركيا على سبيل المثال بوضع خطَّة للحدِّ من التضخُّم الذي تشهده خلال السنوات الأخيرة من خلال تحديد الحد الأدنى للأجور كل ستة أشهر، ومع ذلك لا تزال تركيا تشهد تضخُّماً متزايداً في أنظمتها الاقتصادية.
وتعدُّ الحروب من أكثر الكوارث البشرية التي تسبِّب مشكلات في التضخُّم الاقتصادي، ولا ينحصر التضخُّم في البلدان التي تدور الحروب على أراضيها، فقد تتعرَّض الدول التي تشنُّ الحروب إلى مشكلات في التضخم الاقتصادي، إذ تلجأ الدول إلى تمويل الحروب التي تقيمها ضدَّ القوى الصغرى إلى فرض الضرائب المتنوعة على شعوبها أو تسعى إلى سياسة الاقتراض لتغطية تكاليف تلك الحروب، ولكن في حالات الحروب الكبرى فإنَّها لا تستطيع فرض المزيد من الضرائب لأسباب إدارية وسياسية، كما أنها لا تستطيع إجراء زيادة في الاقتراض إلا بمعدلات فائدة أكبر، وهذا ما يؤدي إلى إنهاك الاقتصاد الوطني كما حدث مع الولايات المتحدة الأميركية في حربها ضدَّ العراق وأفغانستان إذ ما زالت الولايات المتحدة حتى الآن تعاني من ازدياد التضخم نتيجة الفوائد الكبرى التي ترتبت على الأموال التي قامت باقتراضها.
كما تعدُّ الكوارث الطبيعية إحدى أسباب التضخُّم الاقتصادي، فخلال جائحة كورونا التي سيطرت على العالم خلال السنوات الأخيرة استمرَّ التضخُّم في التزايد بسبب تضاعف تكاليف الموارد التشغيلية كموارد بديلة عن الأيدي العاملة، وتسببت بنقص في نسبة التوريد في معظم دول العالم والتي كان لها تأثير كبير على السوق الاقتصادي العالمي، ممَّا أدَّى إلى هشاشة اقتصادية عالمية، وهذا ما جعل من التضخم مشكلة أكبر من مشكلة الجائحة المَرَضية بحدِّ ذاتها.
إنَّ فقدان العملة لقيمتها نتيجة سلسلة من التضخُّمات التي تتوالى على الأنظمة الاقتصادية في الدولة هي عملية ممنهجة تقوم الحكومات من خلالها بمصادرة أموال الشعوب بطريقة تعسفية وغير مباشرة
وقد تستغل الحكومات الاستبدادية الحروب الحاصلة في العالم، والتي قد لا تكون طرفاً أساسياً فيها من أجل استمرار عملية التضخم الاقتصادي في بلادها، فقد استغلَّ النظام السوري الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، بحجة عدم قدرته على استيراد بعض المواد الأولية كاستيراده القمح من أوكرانيا وبذلك حارب النظام شعبه بلقمة عيشه والتي هي من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، كما استغلَّ النظام السوري الكوارث الطبيعية كالزلزال الذي حدث في شباط عام 2023م ليجعله شماعة يعلِّق عليها أسباب التدهور الاقتصادي في سوريا.
إنَّ فقدان العملة لقيمتها نتيجة سلسلة من التضخُّمات التي تتوالى على الأنظمة الاقتصادية في الدولة هي عملية ممنهجة تقوم الحكومات من خلالها بمصادرة أموال الشعوب بطريقة تعسفية وغير مباشرة، وهذا يعني أنَّ المواطنين هم أوُّل المتضررين من عملية التضخم الحاصلة في البلدان وخاصة أولئك الذين يحصلون على رواتب محددة والذين يعيشون تحت خط الفقر، إذ تحدث هذه التضخمات ازدياداً في معدلات الفقر، وتزيد من الفروقات الطبقية بين المجتمعات ممَّا يعني نشوء مشكلات اجتماعية وأخلاقية بين الأفراد منها تفشِّي الفساد والرشوة والسرقات والجرائم وغيرها ممَّا لا يمكن حصره.