عانت سوريا عبر تاريخها منذ اليوم الأول لتأسيسها وحتى يومنا هذا من معضلة سياسية لم يتم للسياسة والمجتمع تجاوزها، تجلت تلك المشكلة في مفهوم "الزعيم" القائد الذي يحمل أحلام الأمة وآمالها ومعاناتها، ولكن في الوقت نفسه يحمل بين يديه قدرها.
يضرب مفهوم الزعامة عميقاً في الشخصية المجتمعية السورية، ترسخ عبر عشرات القرون، وأدت لتدعيمه مراحل عدة بحث فيها الناس عن البطل المخلص القادر على قهر اللاممكن حينها، وزاد في تلك الحاجة الحروب التي لم تهدأ في المنطقة عبر كامل تاريخها، لا يوجد في تاريخ المنطقة سوى ثنائية الرابح والخاسر، لعبة توازن القوى لم تكن مرغوبة، تتصارع القوى حتى تنتهي إحداها على آخرها مقابل ما تبقى من الأخرى، ولذلك بحث الناس دوماً عن شخص يتمثل البطولة والجرأة والحزم ويستطيع ضبط البلاد والعباد، لم يفكروا في طريقة يحكمون نفسهم بنفسهم لانتفاء الدوافع لذلك من تقدم صناعي أو توازن بين القوى، بحث الناس بسبب ذلك عن أي مستبدٍّ على أن يكون "عادلاً".
تلقت الزعامة مع بداية السياسة، إن صح التعبير، دفعة قوية في سوريا، حيث أدت التنظيمات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر إلى بناء الطبقة السياسية في سوريا من وسط الأعيان والملاك، وجاءت قوانين مثل قانون الأراضي والالتزام الضريبي والأخذ عسكر لتدعم أثرياء المدن المركزية في سوريا وبعض الأثرياء من الريف في الحصول على امتيازات ضخمة استطاعوا من خلالها دخول غمار السياسة في مطلع القرن العشرين، ثم كان قانون الجمعيات العثماني 1909 الذي من شأنه نظم الكيانات المدنية والسياسية البوابة الأولى التي بدأت تتشكل من خلالها الجمعيات والأحزاب السياسية التي تولت النضال في وجه السلطة العثمانية مطالبة بالحكم اللامركزي للعرب ومن ثم الانتقال للمطالبة بالانفصال الكامل، واستمرت تلك الطبقة في نضالها ضد المستعمر، ولم يخترق أشخاص من فئات اجتماعية أخرى هذا المضمار لفترة طويلة من تاريخ سوريا، وذلك لعدم توفر التعليم للعموم حينها، إضافة لقدرة أبناء طبقة "الأكابر" على تحمل كلفة النضال والوقوف في وجه المستعمر، مثل السفر خارجا أثناء الملاحقات، أو القدرة على تحمل ظروف الاعتقال وجمع المناصرة والضغط من أجل الدفاع عن المعتقل، ومن المرجح أن قانون الجمعيات لعب دوراً أيضاً في ترسيخ مفهوم الزعامة، فهو لا ينص على الديمقراطية الداخلية، وبالتالي يفتح الباب واسعاً في تثبيت القيادات في التجمعات السياسية التي تتشكل في الفضاء العام، فكثير من القيادات التي بدأت النضال في 1920 كانوا أعضاء في "البرلمان الديمقراطي" لعام 1954-1958، ومن لم يكن نائباً منهم، فإن الموت هو من غيبه، فعلى الرغم من أن العديد من تلك الأحزاب والتجمعات السياسية كانت غير قانونية، أي أن السلطة الفرنسية منعتها مستندة أيضاً إلى قانون الجمعيات، فإن أي كيان سياسي يسعى لأن يكون "شرعياً"، وذلك سعياً منه للمشاركة في صناعة السياسات وتقريرها، ولو أن الديمقراطية كانت شرطاً لتكوين الجمعيات في القانون، كان من المرجح أن تقوم تلك الكيانات بالسعي لأن تكون قانونية، وأن تقيم نوعاً من الديمقراطية ولو شكلية في تجمعاتها، لكن غياب هذا البند منح الأعيان راحة في استبدال القيادة بالزعامة.
واقع الانتداب الثقيل خلق أيضاً مناخاً مناسباً، فقد أدى بوجوده لصياغة هدف مشترك واحد عند فئات واسعة في المجتمع، وهو الاستقلال، ونادى بهذا الهدف شريحة واسعة من الأعيان أيدها بذلك المجتمع، ووضعها في مقدمته، ولأن الزعامة لدى المجتمع السورية تعني الإقدام والقوة، فكانت الجرأة والفصاحة، والتي هي أداة قوة تتجلى في حسن الخطاب، عنصران أساسيان في الزعيم، وجاءت البندقية قبل الكلمة في ظل مجتمع يعيش فترة نضال وتحرر، لذلك كان قادة الثورة من أوائل الزعماء، وعلى سبيل المثال عند تشكل الكتلة الوطنية، المجموعة الأوسع شهرة في التاريخ السوري، وبعد أن أعلنت برنامجها في ذكرى أربعين إبراهيم هنانو أكدت على أن بيت الزعيم "إبراهيم هنانو" هو بيت الأمة، وأصبح بيت كل "زعيم" بيت أمةٍ في مدينته، وبالتالي استمد الحزب السياسي شرعيته من زعمائه وليس العكس، فالعلاقة بين هؤلاء الزعماء والفئات الاجتماعية لم تقم على أساس التمثيل والانتخاب، وإنما على أساس الراعي والرعية.
كذلك الأمر أعلن أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري نفسه زعيماً على الحزب مدى الحياة، وأن العلاقة بينه وبين "المقبلين على دعوته" تعاقد على القومية السورية الاجتماعية، فعليه وضع السياسات والتخطيط لمصير الأمة، وعليهم الدعم المطلق لرؤيته وتنفيذها، وحرصت تلك الزعامات على قوننة زعامتها، ففي 1947 سعى الزعيم شكري القوتلي لوضع "قانون الاستقلال" الذي يحد من الحريات ويضع ترخيص الأحزاب تحت رحمة السلطة التنفيذية، رفضت باقي الأحزاب القانون وخرجت المظاهرات في الشوارع ضده، وللمفارقة كان أبرز من قاوم القانون حزب البعث الذي حرّم كل سياسة في عهده، ولم يتم تمرير القانون، وكان سعد الجابري رئيس برلمان 1945 قد منح شكري القوتلي لقب الزعيم الرئيس لتكون أولى خطوات تقوية السلطة التنفيذية في مواجهة السلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان، وبعد نجاح القوتلي في انتخابات شابها التزوير والتلاعب عام 1947.
وفي مرحلة دخلت فيها مجاميع مختلفة من الفئات الاجتماعية ساحة التعليم، وانتهى اجتماع الهوية عندها على تعريف نفسها من خلال مواجهة الآخر بعد خروج الانتداب الفرنسي، وبداية المهام الوطنية المتعلقة بالرفع من مستوى المعيشة وتطوير الاقتصاد، بدأت عثرات الزعماء تبدو أكثر وضوحاً، واستعان القوتلي بالجيش لفرض منع التجول في حلب، لترتدي الزعامة لباساً عسكرياً بعد انقلاب حسني الزعيم، واستمرت تلك الزعامة لترتدي رداء شعبوياً شمولياً بعد تسلم عبد الناصر للسلطة، وعندما جاء البعث لاحقاً حافظ على الشعبوية الناصرية والزعامة التقليدية بعد منحها معاني حداثية، ولكن لأن تلك الزعامة لم تكتسب شرعية تقليدية، فقادة البعث لم يكونوا يوماً أعيان فئاتهم الاجتماعية، من أجل ذلك كان العنف والمزيد منه أداة حماية لتلك الزعامة الهشة، ليتم المناداة بحافظ الأسد فيما بعد قائداً للضرورة في ظل المرحلة التاريخية حسب مقررات المؤتمر الخامس لحزب البعث 1973، ثم رفعه لمرتبة القائد للأبد في المؤتمر القطري الثامن 1985، والزعامة ليست حكراً على السلطة فحسب، بل الأحزاب المعارضة توفرت على زعمائها، وكانت كل معارضة إما أن تكتم، أو تؤدي لبناء حزب جديد، مثل الحزب الشيوعي الذي أدت معارضة خالد بكداش فيه لنشوء حزب جديد (حزب الشعب)، أما في فترة بشار الأسد فتم إلباس الزعامة معنى أكثر حداثة لتتم أقلمته مع الاصطلاحات الدولية، فباتت السيادة في بعض معانيها تعني الزعامة، فسيادة الأمة ليست بسيادة شعبها، وإنما ببقاء زعيمها، لأنه ممثل الأمة وحامل قيمها وأهدافها. يمثل بشار الأسد اليوم طرفاً في معركة بدأت مع نشوء الدولة السورية بين الزعامة والتعددية، يمثل الأسد الزعامة في أكثر أشكالها تطرفاً.