بعض الحقائق التاريخية لا يمكن إنكارها فهي تُكتب في سجلات الدولة وتُرسّخ في ذاكرة الشعوب فمنها ما يكون موقفاً تاريخياً سياسياً تفتخر الدولة به على مر العصور، ومنها ما يكون موقفاً تخاذلياً تنكره الدولة وتتهرب منه إذا كان يضرب في مبادئها أو أعرافها وتاريخها ومن هذا المنطلق كان هناك الكثير من المواقف المشرفة التي سجلها التاريخ للعديد من الدول والحضارات والأحزاب والتي لا تلبث أن تفخر بها في كل محفل أو مناسبة رسمية، وفي المقابل أيضاً الكثير من المواقف التاريخية التي تجلب العار السياسي أو الإنساني لبعض الدول والحكومات أو الأحزاب والتي تعمل جاهدةً لمحوه من ذاكرة الشعوب وتاريخها السياسي.
وفي أثناء تطور التنافس الحزبي في الجمهورية التركية بين أحزاب معارضةً شكل الحزب الشعب الجمهوري قوامها برئاسة زعيمه كمال كليتشدار اوغلو وأحزاب أخرى انضوت تحت مظلة الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان ملف اللاجئين من أهم الأوراق السياسية التي استخدمتها المعارضة السياسية لكسب الأصوات الانتخابية حيث توعد رئيس التحالف السداسي المعارض كمال كليتشدار أوغلو بإرسال السوريين إلى بلادهم وتسليمهم للنظام السوري متجاهلاً بذلك المعاناة التي مر بها السوريون على يد النظام السوري المجرم الذي قتل وشرد الملايين من السوريين، بل متوعداً أيضاً بمصالحة نظام الأسد مؤكداً على وقوفه ومساندته للنظام السوري متهماً اللاجئين السوريين بأنهم هم من يهدد الأمن القومي التركي، فقد صرح مؤخراً "فليسمعني الجميع، لم نجد هذا الوطن في الشارع، ولن نتركه للعقلية التي جلبت 10 ملايين لاجئ غير نظامي.. حدودنا هي شرفنا".
قد يرى البعض أن رغبة الحزب الجمهوري في تسليم اللاجئين للنظام السوري أمر فريد قد يحصل للمرة الأول في التاريخ السياسي التركي، ومن هذا كان لابد من العودة إلى التاريخ السياسي للحزب الجمهوري والتذكير بحادثة جسر بورالتان والتي كانت حسبما يصفها البعض بأنها وصمةُ عار في مسيرة الحزب السياسية.
مذبحة جسر بورالتان
مذبحة جسر بورالتان أو كارثة جسر بورالتان هي المجزرةُ التي حصلت بعد عودةِ 195 سوفيتيًا مسلماً من أصول أذربيجانية تركية لجؤوا إلى الجمهورية تركيا هرباً من بطش الاتحاد السوفييتي عام 1945، وبعد وصولهم إلى الأراضي التركية سلموا أنفسهم إلى مركز الشرطة الحدودية وحسب رواية الشاهد التركي بكر دوغان والذين كان من بين عناصر مركز الشرطة التركي آنذاك فقد أكد أن أعدادهم كانت تترواح بين المئة والخمسين والمئتي شخص بينهم مسنون وشباب وحتى نساء أيضاً.
كان هؤلاء الهاربون من بطش ستالين ونظامه قد لجؤوا إلى تركيا عن طريق عبور جسر بورالتان على نهر أراس، لكن عندما قدم السوفييت طلباً للحكومة التركية لإرجاعهم عرضت الحكومة التركية القرار في البرلمان التركي والذي كان حينها يتشكل فقط من حزب الشعب الجمهوري وبعض المستقلين حيث تمت الموافقة على القرار من قبل الحكومة، وتمت إعادتهم بأمر من الحكومة الذي كان يرأسها آنذاك سراج أوغلو بالاتفاق مع رئيس الدولة حينها عصمت أيننو زعيم حزب الشعب الجمهوري.
وحسب الشاهد التركي فقد جاء الأمر لمركز الشرطة التركي بتسليم كل اللاجئين للجيش السوفييتي من المعبر الحدودي التركي الروسي وعندما عجز ضابط مركز الشرطة التركية على صد القرار قام بتسليم اللاجئين للسوفييت وقام بعدها بالانتحار مطلقاً على نفسه رصاصةً من مسدسه.
ما إن تسلم السوفييت اللاجئين الأذربيجان قاموا بإطلاق النار عليهم مرتكبين مجزرة جماعية عُرفت تاريخياً بمجرزة جسر بورالتان، هذه الحادثة التي شكلت وما زالت تشكل الكثير من الجدل إلى تاريخنا هذا، حتى على صعيد التصريحات السياسية التركية فقد كان لها حضور كبير حيث قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بذكر هذا الحادثة في أحد خطاباته مؤكداً على أن سياسة حزب الشعب الجمهوري تجاه اللاجئين السوريين هي سياسة تسليم توارثية أصيلة في حزب الشعب الجمهوري.
تم طرح قضية مذبحة جسر بورالتان لأول مرة في عام 1951 من قبل نائب الحزب الديمقراطي في تيكيرداغ شوكت موجان، وتسببت في مناقشات مختلفة حينها، وعلى إثرها يحاول حزب الشعب الجمهوري دوماً التبرير على تلك الحادثة بأنه كان هناك اتفاقية تسليم مشتركة بين السوفييت والحكومة التركية وأنهم كانوا مجبرين على تسليمهم.
ورغم محاولات متكررة وفاشلة لوضع تبرير لحادثة جسر بورالتان من قبل الحزب الجمهوري، أعاد التاريخ نفسه ومنح الحزب فرصةً أخرى لتعديل موقفه الإنساني وتصليحه من خلال اللاجئين السوريين، إلا أن الحزب كان مُصراً على ترحيل كل السوريين ضارباً بعرض الحائط الدروس التاريخية التي كان ممكناً أن يتعلمها من عواقب حادثة جسر بورالتان.
ومما سبق نعتقد أن البروباغندا الإعلامية للحزب الجمهوري على الرغم من زعمها أنها تنادي في حقوق الإنسان للمواطنين الأتراك، وبأن الحزب سوف يجلب لهم الحرية والانفتاح إذا وصل إلى السلطة إلا أن شعار حملتهم كان مناقضاً لحقوق الإنسان، ولما ينادي به الحزب من مبادئ ديمقراطية فقد كانت شعاراتهم "سنرسل السوريين فور وصولنا للسلطة" ورقةً سياسية بعيدةً كل البعد عن أي برنامج انتخابي تسلح بها الحزب الجمهوري لكسب أصوات الأشخاص الذين يحملون على السوريين بصفتهم مكوناً ثقافياً أو عرقياً مختلفاً، وهذا بحد ذاته انتهاك حقيقي لإرادة السوريين وتهديد مباشر لحياتهم وبعيداً حتى عن أفكار وأعراف وأيديولوجيات الأحزاب الديمقراطية المتعارف عليها سياسياً.