في عالم الحيوان المحكوم بقانون الغاب، وعند وقوع ملمَّة على حيوان أو مجموعة حيوانات؛ لا ذلك الحيوان أو مجموعته يعتبرون أن مواجعهم هي الأوحد والأفدح في التاريخ الحيواني، ولا باقي المجموعات الحيوانية تراها أو تتفاعل معها هكذا. أما في عالم الإنسان المحكوم افتراضياً بقانون بشري، ونواظم حياة، وعهود، وعقود، وآليات تضمن إنسانية، وحقوق، وأمان، وعيش، هذا المخلوق ومجموعته؛ فيشعر البشري أو المجموعة أنهم إذا وقعت عليهم مصيبة، فهي الأهم والأفدح؛ ويتوقعون استيعابَ وتعاطفَ ونجدةَ إخوتهم في الإنسانية.
خلال عقد من الزمن، اعتبر السوريون قضيتهم الأفدح في التاريخ الحديث- وهم معذورون بذلك، لأن ما حلَّ بهم تجاوز ما جرى لليهود إبان الحرب العالمية الثانية، وما زال يبكِّت ضمير البشرية حتى الآن. وبحكم اختلاف عالم الإنسان عن عالم الحيوان، توقّع السوريون فهماً وتعاطفاً ودعماً أو نجدة من إخوة الإنسانية؛ إلا أنه ثبت أن عالم الحيوان يمكن أن يكون أكثر رحمة. بالكلام والتصريحات، ثلاثة أرباع عالمنا تعاطفوا، وأكثر من مئة وثلاثين دولة كانت "رسمياً" إلى جانب السوريين في الحرية وتقرير المصير؛ لكن إذا ما نظرنا إلى مآلات ونتائج تلك المواقف، تجاه التطورات المأساوية التي حصلت، يتضح الرياء والانتهازية والدجل، وكل ما لا وجود له في عالم الحيوان.
أميركا تغض الطرف، وتخرج بتصريحات "رفع عتب" تجاه ذئاب تغلِّف أنيابها بمختلف الذرائع والحجج؛ وهي التي كانت إذا ما رف جفنها، يرتعد كل رخيص
ذلك حَدَث رغم أنه لم يكن خفياً على هذا العالم "الإنساني" أن السوريين يعيشون في بلد تستطيع فيه أن تحتج على الرب، ولا تتجرأ أن تحتج على "سيد الوطن"، لأن خطيئتك تجاه الرب يمحوها استغفارك، أما تجاه "سيد الوطن"، فإنها تمحو حياتك. واتضح لاحقاً لهؤلاء أن السوري كان يعيش وما زال في ظل منظومة استبدادية، وكأن مجرد عيشه في ذلك الوطن منّةٌ. فالمنظومة تقتله أو تعتقله أو تشرده؛ إن هو خالفها. منظومة تنهب منهجياً خيرات بلد أسبغت عليه كنيتها؛ منظومة بنت نفسها على أساس المواجهة بالحديد والنار مع الشعب، لا المواجهة مع مغتصب الأرض، حيث تواجه العدو الحقيقي فقط كلامياً بشعار "المقاومة والممانعة"؛ منظومة لم تتردد في استخدام الصواريخ والطائرات والكيماوي؛ وعندما استشعرت أنها في خطر، جلبت الاحتلال كي تبقى. وفي النهاية للأسف، يظهر وكأن الكون يستنفر لنجدتها. فها هي أميركا تغض الطرف، وتخرج بتصريحات "رفع عتب" تجاه ذئاب تغلِّف أنيابها بمختلف الذرائع والحجج؛ وهي التي كانت إذا ما رف جفنها، يرتعد كل رخيص.
منذ يونيو/حزيران الفائت، وبعد "انتصار" العصابة على شعب سوريا وتتويج "النصر" بمسرحية انتخابات كان مخرجها الكبير/قيصر إعادة التكرير/ السيد بوتين؛ انطلقت حملة منظمة يقودها المخرج ذاته تسعى لتقديم "السلطة الأسدية الشرعية" وكأن شيئاً لم يحدث في سوريا؛ والسردية على النحو التالي: {{ما من بديل متوفر للأسد!! ومن يعارضونه فاشلون/ ما زالت روسيا تقاوم الإرهاب/…العملية السياسية تسير… رغم بعض المنغصات!!/ رفع العقوبات مطلوب… وها هم إخوة النظام يعودون إليه…/ لا بد من عودة اللاجئين…./ لا بد من إطلاق إعادة الإعمار، على الأقل < خطوة - خطوة>……./ ويا دار ما دخلك شر… .}}
المفارقة العجيبة أن منظومة الاستبداد، رغم مواتها، تسير بمنهجية على إيقاع هذه السردية؛ ففي اليوم التالي لاستقبال الأمير الإماراتي في زيارة أحد أهم أهدافها- كما سوّق أنصار الضيف- إخراج إيران من سوريا، من أجل مزيد من تمهيد إعادة مياه سوريا إلى مجاريرها… في اليوم التالي توّجت إيران وضع يدها على مصير العقيدة والإيمان والفقه والإفتاء في سوريا؛ وكان ذلك أول ثمرة للزيارة الأميرية؛ والثمرة التي سبقتها كانت الترحيب الرسمي الإيراني بالزيارة. كل ذلك يتم في ظل تصريحات دولية تتراقص بين الإيقاع العالي والمنخفض والصامت.
في وجه كل ذلك ماذا فعلت المعارضة، أو معارضة المعارضة، أو معارضة معارضة المعارضة؟! وما العمل في ضوء ما تقدم، وفي ضوء التفوق بـ "الحيونة" على عالم الحيوان هذا؟ الجواب على شكل برقيات كل واحدة تحتاج إلى مقال. إنه الالتصاق بعالم الإنسان وتعزيزه، علّه يصحا. إنه الوعي للحملة المنظمة. إنه الامتناع عن تشبيه من يرفض أو يعارض منظومة الاستبداد الأسدية بالمنظومة الاستبدادية ذاتها كيفما كانت الأمور؛ فهي صانع ومُرَوّج مقولة: "النظام والمعارضة أسوأ من بعض". صحيح أن أمراض المعارضة في الإقصاء والغباء والطائفية والفساد موجعة ومخزية؛ ولكنها ليست منظومة احتلال داخلي ممنهج الفساد والإجرام يمتلك الصواريخ والطائرات ويرفع شعار "أحكمها أو أدمرها". والأهم من كل ذلك، مقاومة الاستبداد والإجرام ليست محصورة أو مقتصرة على المعارضة وأشخاصها، ولا انتفاضة أو ثورة السوريين محصورة بذلك؛ إنها ثورة شعب بكل حقوقه وأوجاعه ومعرفته وإرادته وقراره باستعادة وطنه حراً سيداً كريما.
ومن هنا لا بد من التفكير /خارج الصندوق/ كما يُقال؛ لا بد من قلب الطاولة على كل ما يجري بعقل وتخطيط وتصميم وإرادة. لا بد من حالة وعي تفرز المستسلمين والمتماهين مع عوالم خارج نواظم القانون الإنساني، ومعرفة الصديق من العدو، والتماسك والتفاهم والتنظيم والانطلاق لتحرير بلدنا بكل الوسائل. ويا لوفرة العقول النيّرة والضمائر الحيّة والعزائم القوية السورية. لا بد من الاستفادة من كل ما يفاقم أزمة المنظومة وحماتها.
لا بد من متابعة ما يخنق المنظومة من عقوبات ومحاصرة دولية ومراقبة التزام أصحابها بها، مع فضح لعبة "خطوة - بخطوة"
ولطالما العملية السياسية تحرجها أو تفضحها، وخاصة تشديدها على محددات وضوابط ملزمة تستند إلى قرارات دولية؛ فلنتركها تسير؛ ونحذر في الوقت ذاته، من تحولها لما يمكن أن تستفيد منه تلك المنظومة. لا بد من تمتين التواصل وتعزيزه مع من ثَبُت صدقه والتزامه بدعم الشعب السوري. لا بد من متابعة ما يخنق المنظومة من عقوبات ومحاصرة دولية ومراقبة التزام أصحابها بها، مع فضح لعبة "خطوة - بخطوة"، والحرص على مساعدات مَن تجب مساعدته، ومد اليد للسوريين الذين تأخذهم عصابات النظام رهائن. ويبقى الأهم المتمثل بجعل مسألة المعتقلين حاضرة في كل تواصل أو فعل إعلامي وسياسي، والاستمرار بتوثيق جرائم منظومة الاستبداد والدفع بتلك الوثائق إلى كل محفل قانوني دولي. مأزومون نحن، وسنستفيق وننهض؛ ولكن منظومة الاستبداد في حالة موت سريري؛ ومأزومية من يدعمها أكبر.