لا بد لكل حركة أو ثورة أن تلتزم بهدف وسياسة واضحة تضبطها، وأفقٍ تسعى إليه في مستواها النظري أو في مستوى القدرة على استيعاب التطورات الجديدة في المسعى؛ للحفاظ على مبادئ نظرية وأفق لتحقيق الحلم بحرية وكرامة، وبالرغم من الرغبة العارمة والعفوية لدى الكثير من شعوبنا ممن انتمى للثورات وأخلص لها أو أيدها أن ينظر لها بعين المحب والحريص على نقائها، قبالة ذلك إن الإفراط في اعتبارها ملائكية وطهرانية هو ضرب من اليوتوبيا والحلم، فالثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا انطلقت ومن ضمن ما تناقلته من شعارات "اخنقوا آخر كاهن بأمعاء آخر فيلسوف"، كما ارتكبت في مسيرة أعمالها إعدامات ميدانية بلا محاكمات ولا مرافعات، وجرفت فيما جرفت في فورتها وذروة فعالياتها أخطاء جسيمة، قد تكون الطهرانية مرتفعة في إطار الحديث عن الشهداء والجرحى ومعاقي الحرب، وقد ترتفع موجة الأدرينالين لدى قسم لا بأس به ممن تأثر بصراخ الأسرى وجراحهم وصراخ المغتصبات، وقد تصبح تلك مبدأ يشكل رؤية ومنهجا وهدفا ساميا لإنصافهن، ومن الطبيعي أن تُوَلِّد المظالم رغبات رد فعل منفعلة محكومة بقانون رد الفعل، ولكنها سرعان ما تنحسر إلى رؤية القصاص العادل متفقة مع مبادئ الثورة إبان اندلاعها في الحرية والعدل وتداول السلطة السلمي.
يحمل الكثير صورة نمطية عن المكون القبلي باعتباره بيئة خارج التاريخ، وباعتبار القبلية ذهنية مفوّتة وماضوية، فانطلقوا من خلال ذلك إلى اعتبار أي حراك بحامل قبلي لا يعول عليه، ولا يمكن أن ينجز أثرا في التأسيس لوطن متحضر؛ تتراكب فيه الثقافات وتتواشج مشكّلةً ثقافة وطن يسمو على الجميع ويتشكل منهم.
قد يصلح جزء من هذا التصور المسبق فيما لو كانت الدولة السورية محررة من براثن الأسد؛ وشهدت حراكا قبليا يدعو لاستقلال القبائل ومناطقها، أو إلى تشكيل وضع قانوني خاص بها على شاكلة قانون القبائل في عهد الاحتلال الفرنسي، غير أنه الآن وأمام تغول قوى كثيرة واستباحتها للأرض السورية والدم السوري ومشاريع دولية لا تحصى؛ بات من المحتم الانتصاف لأي جماعة ترنو لحقها في الحياة؛ تمتلك قوة اعتبارية ولو عفوية تستطيع أن تفرض نفسها كثقل موجود يمكن العمل عليه؛ دون وضعه فوق اعتبارات الوطنية والعدل والشراكة؛ ما دامت تنطلق في رؤيتها من مسلمات تتفق ومبادئ الثورة، ولا تخرج عن أطر الإجماع الوطني المأمول نظريا، خصوصا أنها تقف - القبائل- موقف الند من مشروع ميليشياوي عصاباتي عمل على اعتساف الحقوق وإهلاك الحجر والبشر، وارتكب مجازر بحق الجميع، وهي نفسها - القبائل- التي دفعت ثمن تغول داعش والحرب عليها أيضا، وتدفع الآن ثمن الحرب تحت سطوة الهيمنة العسكرية لقسد التي كرستها أميركا وقوات التحالف في منطقة النفط والغاز منذ اعتبر العربي بيئة حاضنة لداعش.
لسنا بوارد تعويم القبيلة على الدولة؛ بل الإشارة إلى ضرورة احترام شتى الثقافات والدوافع التي يمكن أن تثير تآزرا ضد مشروع يفتت البلاد ويستبيحها
في الحرب تستحضر الشعوب غيبياتها وسردياتها التاريخية ومخيالها الجمعي، ويمكن لقصيدة أو نخوة ينخي بها رجل أو امرأة قبيلته؛ أن تترك أثرا أكثر مما يترك خطاب ثقافي نخبوي في غير مكانه ولا زمانه، ولسنا بوارد تعويم القبيلة على الدولة؛ بل الإشارة إلى ضرورة احترام شتى الثقافات والدوافع التي يمكن أن تثير تآزرا ضد مشروع يفتت البلاد ويستبيحها.
تشكل الحرية أساسا لتحقيق كرامة الإنسان باعتبارها هدفا أسمى لا يختلف عليه اثنان بعيدا عن تأويلاتهما التي تتسع وقد تشط وتخرج عن نصوصها الأولى وضوابطها، وهي الشعلة التي تستنفر في الفرد قدرة مواجهته لواقعه المر المذل؛ وتستفز طاقته وقدراته ليثور؛ فرجل الدين يحاجج بنص ديني أو بحدث مؤثر، وكذا يحاجج المثقف بحق الشعوب في تأسيس دولة تعبر عنها، وكذا يحاجج القبلي بتاريخه وأنفته التي وقرت في مخياله وتاريخه اتفقنا معها أم اختلفنا، وليس هذا التحديد حصرا لكل جماعة بخلق معين؛ بل بتأويلات ثقافية وآفاق قيمية تشكل قيمة عليا في أذهان الناس كل بحسب قراءته وخصوصيات ثقافته.
كنت قد أوردت في بحث سابق عن القبائل في شرق الفرات؛ أن القبيلة تمتلك أفق تواصل أكثر اتساعا من المدينة، لكونها تنتشر في وسط ريفي، ومفتوحة في مستوى علاقاتها على كل إمكانات معرفة وانكشاف التوجهات والاهتمامات؛ نظرا لأن بنياتها وأفرادها يعيشون بيئة واحدة في قرى وبلدات متقاربة؛ وتشترك بالعادات والقيم نفسها عموما، ما يعني إمكانية المعرفة الجماعية العامة عن أي نشاط؛ سواء في مستوى عمل الأفراد أو الجماعات وارتباطاتها الحزبية أو الأمنية أو السياسية، كما تمتلك تلك القبائل أيضا شبكات تواصل قادرة على معرفة من يمكن الاعتماد عليه في حدث ما ومن لا يؤمل منه خير، وهو ما يجعل أي عمل تمرد، معارضة، ثورة، ينبني على معرفة واضحة بالمحيط، ومنه فإن مجرد حدوث ثورة في مكان كضفاف شرق الفرات يعني انتفاضة الجميع؛ وإشهار ثورتهم في وضح النهار دون خوف أو وجل، باعتبارها تشكل حالة عامة وليست حدثا مختلفا عليه؛ كما في بدء الثورة مثلا واختلاف الناس بين مؤيد ومعارض؛ رغم النسبة الغالبة من متبني الثورة في تلك الآونة.
تمتلك القبائل في دير الزور إمكانية مختلفة، هي جزء من قيمة أخلاقية رسخت في ذهنية أبناء دير الزور وهي مفهوم الفزعة؛ حتى تكاد تجمع أبناء الدير وتطبعهم بطابع محدد سواء كانوا أبناء ريف أو مدينة، وقد وجدت لها تأثيثا في الذاكرة الشعبية فيما بين أبنائها؛ حتى أصبح من المعيب على أحدهم أن يشهد حدثا ولا يشارك فيه، وولدت حالة أكثر رسوخا مما نجده لدى أبناء القبائل في محافظات أخرى؛ ولسنا بوارد تعظيم جماعة على أخرى بقدر ما نبحث في سمة محددة تحضر في بيئة اجتماعية قبالة غياب سمات أخرى، ومنها جذور التماسك والتعاون بناء على ثقافة عامة شائعة في بيئة اجتماعية محددة، وهو ما جعل ذاك الترابط العضوي معتمدا على العصبة لدى أبناء دير الزور حالة يحتذى بها من قبل قبائل أخرى تحاول أن تتمثلها، أو يتمثلها أفراد حلموا بانتفاضة شيوخ قبائلهم الذين أذعنوا لقسد في مناطق أخرى، وتعاضد أبناء القبائل الذين تناخوا لنصرة من ثار حتى في بيئات قبلية بعيدة جغرافيا – حلب، والشمال المحرر- لتشكل حالة ثورية قبلية يتشارك بها الغالبية ممن امتلكوا قرارهم وقرروا أن يذهبوا في الأمر إلى آخر مداه، إضافة إلى وجود توجه ثوري لدى شباب كثير في المناطق المحررة، لم يجدوا وعاء يؤطر جهودهم في غمرة التمزق والتشتت السياسي الحالي.
القبائل بدت عارفة لمبدأ قوى التحالف في وقوفه مع الأقوى، واعتراف الأخير بوجود نزاع بين القبائل البعيدة عن المشروع الإيراني وقسد كما ظهر في تصريحات وزارة الخارجية منذ يومين
تبدو ثورة جبل حوران في السويداء قد ذهبت إلى الحد الذي لا رجعة فيه، وما عاد يمثل هيجانا مطلبيا كما تقَوَّلَ البعض بعد أن أزالت أصنام الأسد وضربتها بالأحذية، وفي الحين نفسه رأينا كيف استولدت قبائل السويداء تصوراتها الأولى عن الدولة في رفع صور المؤسسين الأُوَل على مبنى المحافظة، كما رفعوا علم الحدود الخمسة في رمزية لتآزر الجميع وتوحدهم واستحضارا لتاريخ معين، ثورة العشائر هي الأخرى غابت عنها الرايات سوى علم الثورة الذي رفع في بلدات الدحلة، والصبحة، وجديد بكارة، وجديد عكيدات، كما أن القبائل بدت عارفة لمبدأ قوى التحالف في وقوفه مع الأقوى، واعتراف الأخير بوجود نزاع بين القبائل البعيدة عن المشروع الإيراني وقسد كما ظهر في تصريحات وزارة الخارجية منذ يومين، ورفضها التفاوض مع قسد بل مع التحالف حصرا.
تبدو المعركة معركة كسر عظم وحسم؛ حيث شاركت قبائل كثيرة في دير الزور كما دخلت قوى قبلية ثورية من ريف حلب وبنت خيمة الحرب، وتدخلت جيوش القبائل من المناطق المحررة تحت القصف الروسي الذي يؤازر الأسد ويضرب تلك القوات ما يسقط مقولة الاشتباه بحراكها عبر ربطه بالنظام، وبقي على القبائل وأبنائها أن يصمدوا في لعبة عض الأصابع رغم عدم توازن في القوى والمعدات في حين أن صمودها سيعني اندلاعها في أماكن أخرى وانهيار مشروع قسد وتهديدا لسلطة الأسد.