خرج الإنسان من الكهوف وامتهن الصيد، اكتشف النار والعجلة، وارتقى في سلم الحياة حتى نشأ الفكر والثقافة؛ وكان ذلك مترافقا مع حضور الإيمان بإله كما ظهر في الأساطير وآثار السابقين، أو في الأديان سماوية كانت أم أرضية، ودرس الباحثون الدين من أكثر من منظور وذهب بعض الفلاسفة لنقض الدين أو نفيه، وذهب آخرون في الاعتقاد بوجوده بعيدا عن مفهوم الإيمان الذي لم يشهد اختلافا كثيرا، ودرس باحثو علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الدين وآثاره، واختلفت القراءات تبعا لمواقفهم، وذهب العالم باتجاه تمثل تلك القراءات التي نمت عن مواقف اختيارية لكل من نحى في ذلك؛ غير أن مرورا بسيطا على الدراسات التي بحثت الدين من منهج أنثروبولوجي يثبت أن تلك الدراسات بقيت أسيرة قراءة الأنثروبوجيين الأولى ومتأثرة بعلماء الميثيولوجيا (الأساطير)، وصولا إلى عالمنا الذي بات يتعامل مع الدين بوصفه محركا اجتماعيا وثقافيا؛ أو منتجا بشريا.
وكان للتغيرات في ثقافة الإنسان العلمانية في عصر الحداثة أثر في تكوين تصور متعال عن الدين؛ تنبض بالموقف منه وتشكل نهجا عقيديا يشبه نزوع نبذ العقيدة الذي بنيت عليه ويحذو حذوه؛ حتى بدت الحداثة بنسختها الغربية المصدرة المعممة، دينا مقابلا للدين يأخذ منه بعضا من أدواته، والكثير من راديكاليته ولكن بطريقة أكثر حيوية وتطورا؛ تيمنا بقيم الحداثة نفسها المتغيرة والموّارة بما يضمر كل جديد؛ بعيدا عن صلاحيته للبشرية أم عدمها، هنا تختلط الحداثة التي خضعت لاغتصاب واحتلال من قبل المركزية الغربية، وبين تيار العولمة، وبين العلمانية التي ظهرت حلا لمعضلات تاريخية خاصة بالمجتمع الغربي لم تعشها الهند ولا باقي مستعمرات العالم الكولونيالي ولا العالم السوفييتي الشاسع، وباتت هي الأخرى وافدا جديدا على حامل كولونيالي؛ وصعُب على المستقبلين تمييز غثها من سمينها، وهي ليست العلمانية التي تحدث عنها محمد عبده والكواكبي ولا مدنية وثيقة المدينة في فجر الإسلام، لنصل لفرضية تقارب شرقنا ذي البعد الروحي من مسلمين ومسيحيين تدفع للاعتقاد بنجاعة طرح مقولة أن الانتماء النسبي لمطلق أهون بكثير من الانتماء المطلق لمتغير نسبي رجراج متغير، حيث المطلق الدين يقر بإطلاقيته؛ ويفتح باب حق الإنسان في الاجتهاد بحدود تضبط عمله وغاياته ورؤيته للكون، والنسبي رؤية متحولة تطالب بانتماء مطلق وتفتقد آليات ضبط تغيره وتحوله بافتقادها مرجعية أخلاقية قيمية أعلى من جهل ضحاياه، وأنزه من نزعات رواده ومحركيه. وصار هذا المتغير الرجراج تحت وطأة الحداثة المحتلة صورة غير مدركة؛ نظرا لتحولها وهلاميتها يتخذ شكل إله عصي عن الإمساك بحدوده ومآلات البشر في اتباعه، وصار أسا لتقديس الرغبة وانفتاح اللحظة والغاية التي يمكن إشباعها؛ لتتفتح ملامح جوع جديد ببطر المجتاز كل حد، في حين تحتفي قواه الحداثية بالحدود بين البلدان والهويات وتفرز العالم بين خير وشر، بين منتج ومستهلك، وتحول الفرد إلى قطعة صغيرة في آلة الإنتاج الضخمة وترغمه على التماهي مع موجتها الجارفة أو تعجنه وترميه خارجا.
تم التغاضي عن العنف الذي تمارسه الدول الحداثية المتحضرة، كما يغيب التفسير الديني عن قبائل أوروبا نفسها المتحاربة تاريخيا ولكل منها رب تعبده، دون حضور الدين كعامل فاعل في الحروب البينية تلك.
قد لايتسع مقال لمناقشة طروح الدين في عالمنا العربي؛ المقتفية آثار الحداثة في نسختها الغربية التي تبدو مختزلة ووحيدة وحكرية في ظل الاستشراق والمركزية الغربية والهيمنة، وقد يحضر الباحث المغاربي محمد أركون في مناقشته للدين حيث طرح ثلاثية الطقوس والشعائر والأسطورة لتفسير الدين حتى ليبدو أنه تصور تم استدعاؤه أو فرضه.
تم طرح الثلاثية الحاضرة لدى الأنثروبولوجيين (المعتقدات والأساطير والشعائر)، وتمت إزاحة قواعد التعامل والأخلاق إلى مرتبة ثانوية؛ رغم أن تلك الفتوح الأنثروبولوجية المفترضة اختصت بديانات بدائية كالطوطمية لدى قبائل أفريقيا في دراسات دوركهايم، ويطرح قبالة ثنائية رينيه جيرار بين العنف والمقدس، ثلاثية العنف، المقدس، الحقيقة. إن طرح ثلاثية (المعتقد، الطقس، والأسطورة) محايثة للدراسات الغربية التي تناولت الإنجيل والتوراة رغم الاختلاف بينهما والإسلام من جهة، ورغم اختلاف الديانات الثلاث عن أديان القبائل، وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى التزاما بعدم الخروج عن الاصطلاح الأساسي لكنه يبتدع اقتراح مفهوم الحقيقة، كما يطرح ضرورة تفضيل المعنى على السلطة أو القوة والسلم على العنف، منطلقا من دراسة الأنثروبولوجيا كنتيجة للحداثة التي ركزت على الإنسان وألهته ثم قضمته في آلة الإنتاج الحداثي الكبيرة والتي هي نفسها غيبت المعنى وسيدت القوة، فالقوة لأجل الحقيقة أو المقدس مرفوضة ومنبوذة؛ باعتبارها قوة مقاومة خارج سلم المقبول دولتيا وعالميا، في حين يتم تقبل القوة الوافدة من دولة حداثية باسم حرية الفرد الذي سيكون عرضة للتدنيس والتوثين في غمرة الحداثة وما بعدها، وتسليع الإنسان وتحويله إلى روبوت وآلة في ظل حداثة سائلة باتت تأكل أهدافها ومبادئها، تستحضر القوة بوصفها غاشمة عندما تأتي انطلاقا من منظومة حقوقية وأخلاقية مرفوضة حداثويا، ويتم التغاضي عن العنف الذي تمارسه الدول الحداثية المتحضرة، كما يغيب التفسير الديني عن قبائل أوروبا نفسها المتحاربة تاريخيا ولكل منها رب تعبده، دون حضور الدين كعامل فاعل في الحروب البينية تلك، مثلما غاب العنف بدافع ديني عن قبائل أفريقيا المدروسة، في حين لا بد من استحضاره في المجال العربي والإسلامي، كما غابت في المثلث المقدس لتحليل الدين أهمية التعامل البشري تبعا لأخلاق دينية، مع تسفيه حضورها في ميدان العمل الاجتماعي والفعل الجمعي.
تم تذرير المجتمع الغربي نفسه واستهلاكه بعبودية حديثة براقة لا يمكن خلالها نشوء حركات اجتماعية على قضايا كبرى من خلال العمل المجهد والرق والعبودية الجديدة للعمل والاقتصاد والمادية.
إن الفرد الذي يحضر في هذا المقال ليس بوصفه إنسانا حرا، بل بوصفه فردا بلا تاريخ وثقافة وبلا إيمان أو روادع تميزه حول قفاز سيوران إميل إذ تبدو الحضارة وكما يقول ،وحشيتهم المجتمعات البدائية في انتهازية أعضائها وعن إنسان الحرير الذي يغلف مخالب توحش الحضارة "عقب القرون الماضية التي مارست التعذيب بلامبالاة يبدو قرننا هذا أكثر حرصا على الإتقان إنه يضيف إلى هذه الممارسة الطهرانية تَشُرُّف وحشيتنا".
هنا يظهر رأس المال وأربابه آلهة مضمرة وتظهر في إهاب المنفعة والسعي الحميم للكسب، انطلاقا من داروينية تقبل القوي وتكرسه، وهو ما تم تسويقه تماما مع توثين الفرد والرغبة والهوى؛ تلك التي صار من السهل على الفاعل الاقتصادي والسياسي أن يلعب بها، ويتحكم فوق مستوى الحريات الشخصية الفردية؛ التي بدت منحة ونموا وارتقاء، في حين أنها جزء من إطلاق الفردانية التي يمكن اللعب بها من جهتين؛ أولاهما أنه تم تذرير المجتمع الغربي نفسه واستهلاكه بعبودية حديثة براقة لا يمكن خلالها نشوء حركات اجتماعية على قضايا كبرى من خلال العمل المجهد والرق والعبودية الجديدة للعمل والاقتصاد والمادية، فما عاد الأوروبي قادرا على القيام بشيء اللهم إلا مظاهرة لا تغير شيئا تشبه تلك التي رفضت دعم إسرائيل على جرائمها في فلسطين فلم تغير أنظمة ولا حكما، الجهة الثانية للفردية هي نزع أي مرجعية كلية أو فوقية وبالتالي غياب الضمير، والوجدان، والحلال والحرام؛ وفي تهديم دور الكنيسة في أبسط نوى المجتمع ومرجعية العلاقة الزوجية الكنيسة عبر رفع رسومها، وخصوصا أن الفرد الذي لايدفع للكنيسة لا تقبل أن تعقد له عقد زواج، ما جعل العلاقة الزوجية نفسها كبنية أولى للمجتمع، واقعة للانتهاك في آخر حصونها تحقيقا للعائلة السائلة في المكان والثقافة السائلين، مرورا بالحب السائل والحضارة التي تسير نحو هاوية غير ذات قرار.