ثمة إشارات ودلالات عدة تشير إلى متغيرات محورية في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بنظام دمشق وطبيعة علاقاته مع دول الجوار الإقليمي وتغير قواعد ارتباطاته النفعية، إن لم يكن كلياً، فجزئياً وبالتدريج. إذ أفصح العام الفائت منذ انطلاقة انتفاضة السويداء قبيل ما يزيد عن 400 يوم من التظاهر السلمي، وما تخللها من متغيرات إقليمية، بدأت بحرب غزة، وما يتلوها اليوم من حرب الجنوب اللبناني، عن جملة من المتغيرات في طبيعة سلوك النظام بنيوياً، وخارجياً.
في حين يبدي النظام صمته المدقع عن المتغيرات الإقليمية في محيطه التي تمس شركاءه الفعليين طوال الأعوام السابقة، كما كان صمته المطبق في قمة جامعة الدول العربية في المنامة، يحاول بكل الطرق عزل السويداء وحراكها السلمي ومطالبه الواضحة في التغيير السياسي وإظهار السويداء وكأنها ليست على خارطة سوريا، فهل يتمكن من ذلك؟ وما هي معادلة السويداء التي يخشاها؟
السويداء والتهميش المتعمد
لم يكن جديداً على نظام دمشق تهميشه للسويداء وحذره من وقوفها ضده كنظام أمني عسكري لا يكترث بمصير السوريين ومنهم أبناء السويداء مقابل بقائه حاكماً أوحداً. والتاريخ يشير إلى أن تهميش السويداء سياسياً واقتصادياً بدأ منذ عام 1966 بعد محاولات متعددة لضباط السويداء بأن يكونوا جزءاً من معادلة السلطة في سوريا. وربما تكون هذه إحدى معضلات الحكم القائم في سوريا لليوم، ألا وهي الصراع على السلطة، والتي تفرد بها عسكر البعث بعد أن حيد كل معارضيه وصولاً لانقلاب السبعينيات بما يسمى الحركة التصحيحية. لتستمر معاناة السوريين إلى اليوم في ظل حكم البعث العسكري الأمني المهيمن، ولتعاني السويداء من التهميش المتعمد اقتصادياً وتنموياً وسياسياً. تجلى هذا التهميش بحرمانها من المشاريع الاقتصادية سوى ثلاثة معامل لا تزيد قدرتها العمالية عن 100 عامل للمعمل الواحد، مقابل تحويل النسبة العامة من أبناء السويداء لرصيد عامل في قطاعات الدولة الخدمية محكومين برواتب الدخل المحدود. وحرمانها سياسياً من شغل مناصب سياسية أو عسكرية متقدمة في جهاز السلطة.
رغم جميع محاولات أبناء السويداء تحييد أنفسهم من معادلات القوة والعنف الذي سادت كامل سوريا بعد عامي الثورة الأوائل، واختيارها الحياد الإيجابي من العنف المنتشر في كامل سوريا، وعملها على فتج بيوتها للنازحين السوريين من شتى المحافظات الثائرة ضده والتي وصلت لما يزيد عن مئتي ألف عام 2013، وسحب أبنائها من الخدمة العسكرية، لكنها لم تنأ عن ألاعيب نظام دمشق الأمنية الخبيثة. سواء في اعتقال أبنائها الناشطين سياسياً، أو بضلوعه في اغتيال قادة حركة رجال الكرامة عام 2015، أو مشاركته بهجمات داعش عام 2018، ومحاولاته المتتالية جر السويداء إلى معارك مع محيطها في درعا أو افتعال اقتتال داخلي بين أبنائها من خلال تسليط ميليشياته من أبناء السويداء عليها عام 2022، وجميع محاولاته باءت بالفشل. فلا استطاع تهميشها ولا إخضاعها وهنا تكمن معضلته.
تهميش السويداء كان ومازال سياسة ممنهجة لمحافظة يخشى نظام دمشق أن يخسر ورقتها، وعند انتفاضتها الواسعة عام 2023 بدأ يعد العدة لطرق مواجهتها بالطريقة التي يزيد من تهميشها من جهة ولا يخسر ورقتها بادعاء حمايتها. واليوم يحاول بشتى الطرق إجهاض حراكها السلمي وفق ذات المعادلات وإخراجها من المعادلة السورية العامة بحضورها الوطني المطالب بالتغيير السياسي الكلي، لدرجة التعامي المطلق عنها. وكل هذا في سياق امتصاص الضغوط العربية والمتغيرات الإقليمية الجارية في المنطقة.
تهميش السويداء كان ومازال سياسة ممنهجة لمحافظة يخشى نظام دمشق أن يخسر ورقتها، وعند انتفاضتها الواسعة عام 2023 بدأ يعد العدة لطرق مواجهتها بالطريقة التي يزيد من تهميشها من جهة ولا يخسر ورقتها بادعاء حمايتها
معادلة السويداء مرة أخرى
منذ بدء انتفاضة السويداء يعمل نظام دمشق وأجهزته الأمنية على تشويه هذا الحراك ووصفه بالانفصالي والتابع للأجندات الخارجية. ليس ذلك فقط، بل حاول مراراً وتكراراً خرق صفوفه من داخله عبر بث الإشاعات والدعايات المغرضة بحق رموزه الوطنية العامة وسيدات الحرية في ساحات الكرامة، بغرض فك الحاضنة الشعبية عن الحراك بذاته. ورغم محاولته استفزاز السويداء وحراكها السلمي عدة مرات لمواجهات مباشرة عنفية، سواء بإرسال تعزيزات غير مسبوقة للسويداء أو عبر محاولته إقامة حاجز في مدخل مدينتها يتلوه، لكن أبناء السويداء كانوا وما زالوا على دراية ووعي جمعي بألاعيب هذا النظام وعدم الانجرار لمواقعه التي يريد. فرفضوا الحاجز ومنعوا قيامه من دون تحقيق مأربه بمواجهات عنفية، وبطريقة واضحة لا لبس فيها، عنوانها المستمر في السويداء: حرمة التعدي منا وعلينا، ورسالتنا رسالة سلام لكل السوريين ومظاهرتنا سلمية لتغيير هذا النظام بذاته. وأكثر من هذا، فالنظام وأجهزته الذين راهنوا على إحداث شروخ عميقة في بنية الحراك تمنعه من الاستمرار، فاجأهم حراك السويداء بقدرته على تنظيم قواعده الشعبية عبر انتخاب هيئة شعبية تمثيلية تشمل جغرافية السويداء برمتها. وليس فقط، تقوم بانتخاب لجانها الممثلة لها سياسياً وقانونياً وإعلامياً بطريقة ديمقراطية تعتبر مقدمة لعمل سياسي نموذجي قابل للتعميم سورياً. هذه اللجان صرحت عن أهدافها ورؤاها السياسية التي تمثل حراكها بوضوح متمثلة بوحدة الأرض والهوية الوطنية، وإصراراها على التغيير والانتقال السياسي الوطني بمرجعية القرارات الدولية وفي مقدمتها 2254/2015 وجنيف 1/2012، تفتح البوابة أمام السوريين لاسترداد قرارهم الوطني من يد سلطة ونظام دمشق وما استقدمته من قوى أجنبية وميليشيات طائفية مارست كل أنواع القتل والتهجير بحق الشعب السوري.
حراك السويداء مستمر بمطالبته بالحرية والكرامة والتغيير السياسي بغية الوصول لدولة لكل السوريين من دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي، تعبر عنه حواضنه الشعبية وفعالياته وتياراته السياسية ولجانه التمثيلية المنتخبة بمحتواها الوطني ورؤاه الجمعية للهوية السورية، موضحة أن عموم فعالياته تلك هي نقاط وصل وتنسيق بين جميع السوريين الذين أنهكتهم الحرب ومفرزاتها من قوى أمر واقع واستمرار سلطة دمشق في التلاعب بمصير سورية. مقابل هذا يصر نظام دمشق على تجاهل مطالب السويداء وحضورها السياسي في المعادلة الوطنية، لدرجة أنه يتابع إجراء تغيراته في بنيته الداخلية بتشكيل حكومة جديدة تخلو من أي وزير من السويداء، ما له من إشارات ودلالات تستبطن سوءاً تجاهها برمتها وليس حراكها السلمي وحسب. هذا مع متابعته إجراءاته الأمنية بحق حراك السويداء برمتها، الذي عمم قوائم بأسماء مجمل أبناء ساحات الكرامة ووضعهم على قوائمه الأمنية بتهم شتى معروفة لدى جميع السوريين تاريخياً. بحيث تعرقل الحياة الطبيعية أمامهم سواء بمعاملاته الورقية أو الإدارية ما لم يراجعوا الفروع الأمنية!
إن كانت معادلة النظام وأجهزته الأمنية إزاء السوريين في السنوات السابقة كان عنوانها الفج تهمة الإرهاب والتعامل الخارجي لكل من خرج معارضاً وثائراً ضده، فهي بالنسبة للسويداء الانفصال والتعامل مع الخارج، وفي كلا الحالتين، حاول ويحاول إعادة هيمنته وقبضته وفرض سلطته على سوريا والسوريين. ولكونه لم يتمكن من فرضه إرادته على السوريين إلا بالعنف وتهجيرهم لكل شتات العالم، فإنه اليوم يبيت لحصار السويداء سياسياً واجتماعياً وإدارياً. مقابل هذا معادلة السويداء معادلة واضحة لا لبس فيها، عنوانها الأبرز السلمية والتغيير السياسي لنظام دمشق بذاته، وعدم الانجرار للعنف وألاعيبه الأمنية الخبيثة، والأهم من هذا عدم الانسياق مع المعادلات الإقليمية المتغيرة في المنطقة والتي من المحتمل نقل رحى متغيراتها إلى الداخل السوري خاصة في الجنوب، الحدود الأقرب لإسرائيل، وموقعة التداخل الكبير بين الميليشيات الإيرانية وجيش النظام نفسه.
ما يخشاه نظام دمشق
يُذكر، أنه حين اختلف الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد حول طبيعة الحكم الملكي أو الجمهوري، أنه حين فاز داريوس بالملك، كان رد أوتانويس المؤمن بالحكم الجمهوري: "لا أَحكم ولا أُحكم". الموقف الذي وثقه هيروديت بأنه أسهم في استقرار الإمبراطورية وقتها ومنع الحرب والفتن، وحقق الخروج من دوائر الاستعصاء، فهل سيعيد التاريخ ذاته وتعيد السويداء ذات الحكمة حين تُسأل عن الاستعصاء السوري وتخاذل العالم عن الحل السوري وتقول: أما نحن فلسنا طلاب سلطة لنَحكم، ولكنّا حكماً لا رجعة للوراء تحت حكم سلطة يلفظها التاريخ والأعراف والقيم العصرية منها، ولن نكون جزءاً من معادلة أي محور إقليمي يتسابق إلى تقاسم الكعكة السورية، ومعادلتنا الواضحة التغيير السياسي كمدخل رئيسي لتجنب إهدار ما بقي من سوريتنا، وهي المعادلة التي يخشاها نظام دمشق ويسعى لتهميش السويداء من المعادلة السورية على أساسها.