بين القرار الثوري والوطني والاستحقاق السوري

2024.07.29 | 05:45 دمشق

آخر تحديث: 31.07.2024 | 09:33 دمشق

السويداء
+A
حجم الخط
-A

يتصدر مفهوم الثورة والثوري قمة الفعل الوطني كقيمة إنسانية عليا شعورياً ووجدانياً، مصبوغاً بصفات نفسية وسلوكية ذات دلالة عمومية على التمرد والرفض والتحرر من القيود والانتصار للحقوق والمظالم. ويثير المفهوم المشاعر الإنسانية ويجعلها تتصاعد لدرجة سامية تدفع حامليها للتضحية والإيثار والإقدام كقيم إيجابية مثالية.

وحقيقة الأمر أن حجم التضحيات التي قدمها السوريون على مذبح الحرية منذ 14 عاماً يستحق وبجدارة تعزيز وتثمين هذه القيم الإنسانية العامة في الحياة والواقع السوري الحالي وسياقاته السابقة. لكن، في الجهة المقابلة، يثير ذات المصطلح جملة من المشاعر السلبية المتعلقة بالغضب والهيجان الشعوري، كما صور العنف والاحتراب والتي تصل للعمل المسلح والدموي! فهل يقف الفعل الثوري بين هذين الحدين شعورياً وكفى؟ وهل يمكن الاستفادة من تجاربنا الماضية وتحديد سمات المرحلة الحالية التي نعيشها بحيث يمكننا أن نحدد سمات إضافية للفعل الثوري قادرة على محاكاة الواقع الحالي وإمكانياته وطرقه الممكنة لإحداث التغيير السياسي؟

في السياق الموضوعي لمجريات المرحلة السورية الحالية، تبدت وبرزت للعلن جملة من المعيقات والمطبات التي كانت ذات أثر بالغ في تحويل قيم التضحية والإيثار والاندفاع الثوري لمفاعيل هدر وطنية ضخمة (كما وصفتها بكتاب دفاعاً عن الحرية والوطن المهدور قبل عامين)! إذ طوال 14 عاماً خلت ولم تزل تضحيات السوريين قتلاً واعتقالاً وتهجيراً، إفقاراً واضطهاداً، وكأنها تذهب هباء دون الوصول للحد الأدنى من مطالبنا وأحلامنا! ووصلنا للدرك الأسفل في جميع مستويات الحياة. فهل يمكن الاعتماد على القيم العليا التي تجلوها ويكتنفها مفهوم الثورة والثوري وتجسيرها في فعل سياسي قادر على الإنتاج وصناعة الفارق في مسار التغيير؟

بين القرار الوطني والثوري:

يبدو للوهلة الأولى، أن ما نناقشه يدّعي أنه ثمة اختلاف بين مفهومي القرار الوطني والثوريّ وهذا خطأ قائم بذاته ما لم ندقق في المعنيين ومتطلبات كل منهما من حيث الفارق والصلة الممكنة. في المبدأ القرار الوطني هو قرار ثوري كونه يحمل في مضمونه القيم التي يكتنفها الأول، لكن ثمة فروق بينهما تجعل للفعل والقرار الوطني سماته الأكثر موضوعية وذلك إذا انطلقنا من المحددات الآتية:

  1. بينما يكتفي الفعل الثوري بالسمات النفسية والقيمية، فإن القرار الوطني يستقي منها ويضيف عليها البحث عن الإيجابيات وتعزيزها في الواقع المطلوب تغييره، وينظر للسلبيات والمعيقات فيه وإمكانية تغيرها التدريجي بعين التحليل الموضوعي، وليس المفاجئ واللحظي كما في القرار الثوري.
  2. يتخذ القرار الثوري سمات جماعية تندرج تحت سلوك جماهيري واسع، بحيث تشكل سيكولوجيا جماعية جارفة يصعب إحكام توجهاتها ما لم تصوب بين الحين والآخر تجاه الأهداف التي قامت لأجلها، ما يجعل القرار الوطني كقرار عمومي، هو الحد الذي يقنن مجراها ويحدد مسارها تجاه هدفها المنشود.
  3. يمكن للفعل الثوري أن يتحول لحالات من الهيجان والعنف حتى ضد المشاركين فيه أنفسهم في ذات السياق وخلق حالات من الفوضى، وذلك حين معاندة الواقع وعدم الوصول لنتائج. فيما تصبح ميزة الفعل الوطني أنه يدرس معطيات الواقع بتروٍ وعقلانية بعيداً عن التشنج النفسي وإثارة المشاعر السلبية مع أو ضد.

الميزات الثلاث هذه، تحليل السياق وتحديد الهدف والتعقل، هي السمات التي يمكن أن تضع الفعل الثوري في سياقه الفعّال والمنتج، وهذه في عمومها تحتاج لدراسات عدة في توصيفها وتحليلها كما فعل "غوستاف لوبون" في كتابه الشهير "سيكولوجيا الجماهير" أوائل القرن المنصرم.

فيما أن ما يمكن أن نجادله في سياقاتنا السورية، هو البحث المشترك والتعاطفي والتبادلي حوارياً في ممراتنا الإجبارية التي نخوضها اليوم. فقد طرح أبناء الشمال السوري صياغة مبهجة ومبشرة من خلال اعتصام الكرامة، الذي بدأ وما زال مستمراً منذ الأول من تموز الحالي، شعاراً عنوانه استعادة القرار الثوري؛ وإن كان له من ميزة تضاف للقيم الإيجابية التي طرحت نظرياً أعلاه، فهو أن السوريين هناك ما فتئوا يحاولون كل ما باستطاعتهم للوصول لأهدافهم، رغم ما حاقهم من ويلات التهجير والقتل والاعتقال، قبل أن يصلوا للوضع الحالي الذي يعيشون به من تسلط قوى الأمر الواقع وضعف استجابة قوى المعارضة السورية من ائتلاف وحكومة مؤقتة مع مطالبهم، إضافة إلى ما يتعرضون له من سوء عيش وحياة في ظل الوصاية التركية.

هنا أتساءل: ماذا لو رُفع شعار استعادة القرار الوطني! وبالضرورة العودة للفوارق التي أشير لها بداية؟

في استعادة القرار الوطني:

تتمثل محددات استعادة القرار الوطني كعنوان عريض في الحالة السورية في معطيات عدة:

  • القرار الوطني يعطي الفرصة لدراسة الإيجابيات الممكنة من اعتصام الكرامة، سواء بالانفتاح على جميع السوريين دون استثناء، والتركيز على أن أصل المشكلة السورية هو وجود النظام السوري، الذي كان السبب في تهجير واستباحة دماء السوريين ولما وصلوا إليه.
  • إمكانية الانفتاح على السوريين من شتى أنواع المعارضة الرسمية وغير الرسمية ووضعهم أمام مسؤولياتهم، سواء في المشاركة في الاعتصام ومنع اعتقال الناشطين من قوى الأمر الواقع والتعامل الفعال مع المشكلات اليومية التي يتعرضون لها عموماً.
  • الإجابة على سؤال: في حال انسحبت تركيا من مناطق الشمال السوري، هل يمكن التعامل مع ما قد يتعرضون له من هجمات النظام وحلفائه الروس والإيرانيين؟ ما يحيل السؤال لآخر: هل يمكن التعامل مع تركيا بصفات قانونية وفق معطيات الوضع الراهن واستبعاد التعامل السياسي الثوري الرافض والمتمرد؟ وهل يمكن النظر للمسألة السورية كعقدة إقليمية ودولية، ما لم يحدث التغيير السياسي وما يستلزمه من تحقيق الأمن والأمان والاستقرار عبر استعادة القرار الوطني السوري، سنبقى جميعاً بين المطرقة والسدان؟

رغم حجم المآسي التي يعاني منها السوريون النازحون والمهجرون للشمال السوري، ورغم انسداد آفاق التغيير في الواقع الحياتي في الداخل السوري ومثله في جنوب البلاد، لكننا مستمرون ومثابرون في مقارعة نظام الاستبداد والجريمة عبر المظاهرات السلمية الماراثونية في السويداء منذ ما يزيد على 11 شهراً بشكل يومي دون كلل أو ملل. واعتصام الكرامة في الشمال السوري الذي يحاكي مجريات الحدث السوري في السويداء هي نقطة علام ومنعطف وطني سوري محوري في وضعنا الراهن. إذ يحدونا الأمل أن نحقق نقلة نوعية في مسار حدثنا الراهن تؤدي إلى إسقاط الطغمة الحاكمة وتحقيق العدالة والكرامة والحرية لجميع السوريين.

فالقيم التي تتجسد في ساحات واعتصام الكرامة هي قيم ثورية عليا بالمبدأ، يمكن تجسيرها بطريقة أكثر اتساعاً من مجرد فعل ثوري انفعالي وعاطفي إلى مستوى فعل سياسي وطني عام يتجلى بخلاصة وطنية تحدد مساره بشكل فعلي:

  • استحقاق التغيير والانتقال السياسي بمرجعية القرار 2254/2015 والقرارات الدولية ذات الصلة.
  • تحقيق العدالة والحرية والكرامة والوصول لدولة لكل السوريين دون تمييز عرقي أو ثقافي أو ديني.
  • التظاهر السلمي في أي مكان سوري رافعة أساسية للحل السياسي السوري.
  • وضع المعارضة السورية الرسمية وغير الرسمية أمام استحقاقاتها الراهنة بالتجاوب الفوري مع مطالب السوريين، والانتقال الفعلي لرسم خطة عمل مرحلية واضحة محددة الزمن لتحقيق الهدفين أعلاه.
  • وضع المجتمع الدولي والمنظمات الأممية والدول العربية أمام سؤال الاستقرار السوري وسواد السلام فيها.
  • الخروج من معادلات الدول الإقليمية وصراعتها البينية والتمسك بالثوابت الوطنية السورية.

وهذا الاستحقاق هو جدارة السوريين وقدرتهم على ترجمة المبادئ لمشاريع عمل سياسي وطنية تتغذى من قيمها الثورية كرافعة لها، وهذا القول محطة جديدة في مشروعنا الوطني المستحق.