خلال السنوات الماضية، كثرت المبادرات السياسية الإقليمية لحل "الأزمة السورية" في ظل غياب الجدية الدولية في حلها، خصوصاً مع انشغال الغرب بالحرب الأوكرانية، فقد فضّلوا إبقاء الملف السوري في حالة من الركود لعدم قدرتهم على التعامل مع أزمة ثانية إلى جانب الأزمة الأوكرانية، وهذا الوضع أدّى إلى استفراد كل من موسكو وطهران بسوريا.
تواجه موسكو عقبتين قبل إعلانها الانتصار الكامل لبشار الأسد، وهما إعادة الإعمار والتطبيع العربي والإقليمي مع نظام الأسد كمرحلة أولى، بينما تواجه إيران عقبتين لتحقيق انتصارها الكامل، وهما الوجود الروسي وإعادة الإعمار.
ومن هنا بدأ الروس والإيرانيون بالتواصل مع الدول العربية لحثهم على التقارب مع نظام الأسد، حيث روّجت روسيا لفكرة أن الأسد قد يكون جزءاً من الاتفاق الإبراهيمي لاحقاً ويحتاج إلى دعم مالي وسياسي لكيلا يكون تحت السيطرة الإيرانية المطلقة، بينما روّجت إيران لنفس الدول أن التطبيع مع الأسد هو بادرة حسن نية تجاه إيران تسهم في بناء منطقة مستقرة.
إلا أنّ التواصل العربي مع بشار الأسد لم يعط الانتصار المطلوب لروسيا أو لإيران، لاختلاف وجهات نظر البلدين وعدم قدرة النظام على السير في طريقين متعاكسين بالوقت نفسه.
في محاولة لإجبار العرب على التطبيع مع الأسد، استخدمت إيران الكبتاغون وتهريب السلاح إلى الأردن كأداة ضغط، مما أرسل رسالة واضحة بأنها صاحبة القرار العسكري "على الأقل" في سوريا..
في محاولة لإجبار العرب على التطبيع مع الأسد، استخدمت إيران الكبتاغون وتهريب السلاح إلى الأردن كأداة ضغط، مما أرسل رسالة واضحة بأنها صاحبة القرار العسكري "على الأقل" في سوريا، وتم الإعلان عن الكثير من الاتفاقيات الاقتصادية والثقافية والدينية والمالية والديون الإيرانية على النظام السوري، والتي تهدف لإظهار تبعية النظام الكاملة لإيران.
وفي نفس الوقت، عزّزت روسيا وجودها العسكري على الحدود بين إسرائيل وسوريا لمنع القوات الإيرانية وميليشياتها من شن هجمات على إسرائيل للحد من التهريب الإيراني، مع الوعد ببذل المزيد من الضغوط على النظام ليكون أكثر جدّية في العملية السياسية مع معارضيه.
ووقّع النظام مع الروس اتفاقيات مشابهة للاتفاقيات الإيرانية وأحياناً يمنح النظام روسيا ذات المشروع الذي يمنحه لإيران، في مؤشر واضح لفقدانه السيطرة على الأمور.
العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، كشف هشاشة النظام السوري وتناقض المشروعين الروسي والإيراني في سوريا، دون أن يعني ذلك تصادماً بينهما لأسباب ليس لها علاقة بسوريا.
ففي الوقت الذي تريد إيران من النظام السوري المشاركة في محورها بشكل علني وواضح ضد إسرائيل، وتقديم التسهيلات والأسلحة للميليشيات التابعة لها، أخبر النظام الدول التي تتواصل معه أنه مسؤول فقط عن القطاعات العسكرية والطرقات التي تسيطر عليها قواته فقط في الجنوب السوري، وأنه غير مسؤول عن أي نشاط يُقدم عليه أي طرف آخر.
وفي الوقت نفسه أيضاً، طلب الروس من النظام السوري الابتعاد عن هذه الحرب، خصوصاً بعد التحذيرات الرسمية الأميركية والإسرائيلية للأسد بأن دوره سينتهي إذا ما تجرّأ على فتح الجبهة الجنوبية السورية، وأرسلوا المزيد من الجيش الروسي للتمركز مع قوات النظام في المناطق الحدودية، لحماية نظام الأسد ومنع إيران من تنفيذ عمل عسكري قد يدفع ثمنه رأس النظام..
ويبدو أن طريقة التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي تجاه المنطقة وأولوياتها قد تغيّر، حيث انتقل من التركيز على عقد اتفاقيات سلام مع الدول العربية كأولوية وإهمال "حزب الله" اللبناني وحركة حماس، إلى ضرورة الانتهاء من حماس والحزب وداعميهما كأولوية قصوى على المدى القصير.
التغيّر الاستراتيجي الإسرائيلي ترافق مع رغبة موسكو والغرب عموماً في الاستفادة من حرب غزة لإضعاف النفوذ الإيراني في سوريا قدر الإمكان، حيث نشرت عدة وسائل إعلام زيارة إلى سوريا أجراها عدد من رؤساء مخابرات الدول الأوروبية، وذلك للتباحث في موضوع إنشاء مناطق آمنة وسط سوريا وعودة اللاجئين وتقديم أموال لإعادة الإعمار عبر منظمات غير حكومية ترعاها أسماء الأسد، مما يعني الاعتراف بشرعية الأسد.. ولكن كان السؤال ما المقابل أو بأدق ما هي الصفقة التي تتم مناقشتها؟
تزامنت تلك المحادثات والاتصالات الغربية مع بشار الأسد باستهداف إسرائيلي نوعي للمواقع والشخصيات الإيرانية المؤثّرة في سوريا بشكل متواتر ومتزايد ومؤلم للإيراني، مما أوحى بوجود شيء أعمق مما يتم تداوله إعلامياً.
يبدو أنّ الاستخبارات الإيرانية لم تبذل الكثير من الجهد لمعرفة التفاصيل، الإعلان أن أسماء الأسد مريضة وأنها ستبتعد عن الفعاليات الإعلامية وصمت الأسد في الجامعة العربية وعدم ذهابه للتعزية بوفاة الرئيس الإيراني، وأخيراً مقتل لونا الشبل، كلّها حلقات في سلسلة واحدة تمثل الرد الإيراني الذي لم ينته بعد.
طلبت روسيا من تركيا التنسيق مع النظام لحل المشاكل في شمالي سوريا وعرضت استضافة لقاءات عسكرية وسياسية بين الطرفين لتحقيق هذه الغاية، والتي يود الروس أن تتوج بلقاء بين الأسد وأردوغان، بالتزامن مع عمل إيران على إنشاء منصة بغداد الأمنية لتكون آلية تواصل عراقي سوري تركي لمناقشة المواضيع نفسها..
وطلبت روسيا من تركيا التنسيق مع النظام لحل المشاكل في شمالي سوريا وعرضت استضافة لقاءات عسكرية وسياسية بين الطرفين لتحقيق هذه الغاية، والتي يود الروس أن تتوج بلقاء بين الأسد وأردوغان، بالتزامن مع عمل إيران على إنشاء منصة بغداد الأمنية لتكون آلية تواصل عراقي سوري تركي لمناقشة المواضيع نفسها، مثل محاربة الإرهاب وعودة اللاجئين، وذلك بعيداً عن منصة أستانا والرقابة الروسية، لتبقى الأمور تحت سيطرتها.
ترافق ذلك مع تطوّر في الموقف التركي، حيث صرّح أردوغان بأنه لا مانع لديه من دعوة بشار الأسد، حيث يقول المسؤولون الأتراك إنّ أردوغان يدرك أن الأسد لن يستطيع تقديم أي شيء، لكن عليه أن يتحدث إلى الشارع التركي للقول إنه يبذل كل جهد ممكن لحل مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، رغم إدراكه الأهمية الاقتصادية التي يمثلها السوريون في الاقتصاد التركي.
وأردوغان يحتاج للعمل مع موسكو في موضوع حزب العمال الكردستاني الإرهابي، الذي ينتشر في منطقة الجزيرة السوريّة، وبالتالي يخدّم الأهداف الروسية ويحتاج من الروس اتخاذ خطوات جدّية تدعم تركيا في إنشاء منطقة آمنة داخل كل الشمال السوري بعمق 40 كيلومتراً، بمعنى إبعاد إيران وميليشياتها عن الحدود التركية وليس فقط قوات الحزب الكردستاني.
في النهاية، يبقى مستقبل سوريا رهين التفاهمات والتجاذبات الإقليمية والدولية بغياب معارضة وطنية شعبية، وفي ظل غياب حل جذري وشامل للأزمة السورية، والذي يتطلّب تضافر الجهود الدولية والإقليمية بشكل جدي وفعال للوصول إلى سلام دائم ومستقر في المنطقة.