ما يزال (الصبر الاستراتيجي) الإيراني سيد الموقف لدى راسمي السياسة من الإيرانيين، ضمن متغيرات الوضع السياسي والجيوسياسي في المنطقة.
وما برح القادة الإيرانيون يتذبذبون في تمظهرهم الإعلامي وتصريحاتهم المتوالية والمتناثرة، (خاصة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ثم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتداعياته)، وهم ينوسون بين التوعد اليومي بالانتقام، أو العودة إلى سياسات (الصبر الاستراتيجي) الذي جاء ليتم عبره مؤخراً استبدال سياسات رأس النظام الإيراني السابق (آية الله الخميني)، الذي انتقل من حالة (تجرع السم) الذي اتبعه وانتهجه يوماً ما، إبان حرب الثماني سنوات مع العراق، في ثمانينات القرن الفائت، ليحط الرحال الآن.
ورغم كل حرب الإبادة ضد الفلسطينيين الجارية في غزة، والتي تستهدف بعض حلف (الممانعة والمقاومة) وبالرغم من كل هذه التصريحات الإيرانية التي كانت تنادي بتحرير الأقصى ونصرة أهل فلسطين، وبعد أن طالت يد الإسرائيليين قادة مهمين في حركة حماس، وهي تقطن ضمن المربع الأمني الأهم لميليشيا حزب الله في الضاحية الجنوبية/ بيروت، وأيضاً استمرار القصف الإسرائيلي على مواقع عديدة في الجغرافيا السورية، حيث طاولت العديد من القادة العسكريين، من ميليشيات إيران وتوابعها في سوريا، إضافة إلى ما فعلته أميركا من استهدافها لكثير من قادة (الحشد الشعبي) التابع لإيران في العراق، وكذلك قادة عسكريين لحزب الله في لبنان، وأخيراً الهجوم التحالفي الأميركي البريطاني، وضمن ما سمي (تحالف حرس الازدهار)، الذي لقّن ميليشيا الحوثي في اليمن، ومعهم إيران بالضرورة، درساً مريراً لن ينسوه وقد تستمر مفاعيله الدراماتيكية إلى زمن طويل قادم.
ما زال قادة دولة الملالي في طهران يتمسكون عبر سياستهم في موضوع صبرهم الاستراتيجي، الذي طال أمده، بل جاوز كل صنوف الصبر حتى بات يعود مرة أخرى، وتجرع الإيراني سمه وما يزال..
بالرغم من كل ذلك، ما زال قادة دولة الملالي في طهران يتمسكون عبر سياستهم في موضوع صبرهم الاستراتيجي، الذي طال أمده، بل جاوز كل صنوف الصبر حتى بات يعود مرة أخرى، وتجرع الإيراني سمه وما يزال.
ويبدو أن السياسات الإيرانية في المنطقة ما انفكت تمسك بزمام الأمور بكليتها وتحاول جاهدة أن لا تنفلت الأمور من عقالها من حيث أنها لا تريد (بل تخاف) التورط في حرب عسكرية طاحنة ومصيرية مباشرة مع إسرائيل، أو مع الإدارة الأميركية، التي تجهد طهران من أجل أن لا ينقطع حبل الود تحت الطاولة، وهي ترسل الوعود تلو الوعود إلى الإدارة الأميركية من أنها لن تدخل في حرب ضد إسرائيل، بل هي حريصة كل الحرص على ملامسة خطوط التفاهمات والتوافقات السابقة مع إسرائيل وأميركا، والتي تحول دون انفلات الأمور، ويدرك حسن نصر الله ذلك أيضاً، بل هو ينفّذ ذلك على أكمل وجه، مهما كانت قذائفه (الشكلانية) الموجهة إلى الاحتلال الإسرائيلي أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورد إسرائيل عليها موجعاً ومحرجاً له.
والواقع في المنطقة والمشهد الواضح يقول: إن حرب قطاع غزة وانكشاف ثم انفضاح لعبة وأطروحة ما سمي بوحدة الساحات الواهية، وضآلة القدرة الإيرانية وانكماشها الكلي، مع كل حلف (الممانعة) على نصرة أهل غزة، حيث انكشفت وتعرت كل الشعارات الإيرانية، ومعها شعارات الطاغي بشار الأسد، وأيضاً ميليشيا حزب الله الذي يأتي رده العسكري مع شريكه بشار الأسد في إدلب والشمال السوري بمجموعه خارج سلطة الأسد، ويستهدف المعارضة السورية وأهل سوريا المناهضين لحكم الاستبداد الأسدي الطغياني، ويصمت الجميع عن أي رد جدي وفاعل تجاه أو في مواجهة القصف الإسرائيلي والمتواصل على أراضي سورية ولبنانية ويتفرجون جميعاً على ما يجري من حرب إبادة جماعية بائنة ومكشوفة، ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة.
يظن البعض أنه وبعد القصف القوي الكثيف والمؤلم الذي نالته قوات وميليشيا الحوثيين حلفاء إيران/ الملالي وأدواتها في حرب الوكالة بالمنطقة طوال سنوات، ستؤدي بشكل من الأشكال إلى اتساع الحرب، وفتحها بما يتجاوز تلك المناوشات المتبعة كوسيلة اشتغل عليها حلفاء إيران في المنطقة، منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، لحفظ ماء الوجه، ومن ثم فإنها ستكون بالضرورة هذه المرة، عبر إيران مباشرة، لكن ذلك لم يحصل ولا يبدو أنه سوف سيحصل، إذ لا يمكن المخاطرة من قبل دولة إيران/ الملالي بجل مشروعها الفارسي الطائفي الذي كان وما زال يستهدف المنطقة بمجموعها، وهو الموجود لدى الإيرانيين كحلم راود وما برح يراود أهل فارس، وأصحاب حلم عودة إمبراطورية (كسرى أنوشروان) التي سادت ثم بادت، على يد العرب والمسلمين إبان الفتح الإسلامي لمناطق بلاد فارس.
وذلك التشيع السياسي الإمبراطوري الفارسي الصفوي، وهو الذي كان قد اعتقد أنه حقق كثيرا من حالات التمدد والأطماع نحو إنجاز ذاك المشروع الخطر، الذي يعادل في خطورته المشروع الصهيوني/ الإسرائيلي إن لم يكن أشد خطراً منه، بعد أن حقق كثيرا في سنواته الأخيرة، وهو الذي هيمن على العديد من العواصم العربية المجاورة، مثل دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت، فكيف له اليوم وبعد كل الذي جرى على طريق إعلاء بنيان وأسوار المشروع الفارسي، أن يقامر ويفرط بما أنجز على الأرض، ويدخل في أتون ورحى حرب كبيرة مع إسرائيل، أو مع أميركا.
لن يكون ذلك أبداً، وتدرك أميركا تماماً أن إيران لن تفعل ذلك، ولا يمكن أن تخاطر بمثل ذلك، من هنا كانت زيارات (بلينكن) و(هوكشتين) المتكررة للمنطقة، قد حاولت وتحاول ضبط الأمور وحصر الحرب بشكلانيتها ومناكفتها بالوكلاء ليس أكثر.
(الصبر الاستراتيجي) الإيراني باقٍ، ولن يغير ملامحه، ولن يكون هناك أي حرب طويلة وواسعة مع إيران ضمن لعبة الاستراتيجيات النفعية المصلحية، في المنطقة..
ولتبقى حرب شعار (وحدة الساحات) المفترضة منحصرة بحرب العواميد، والمناكدات والألعاب النارية، بما هو قبل يافا، وليس ما بعدها، ولتبقى صواريخ الردع لدى حزب الله (كما يسمونها) مخزنة في جحورها، وكي تبقى دول محور (الممانعة) صامتة صمت القبور، ومنتظرة ما يمكن أن تسفر عنه حرب غزة، ويومها التالي، لأن ما بعد غزة لن يكون كما قبلها.
(الصبر الاستراتيجي) الإيراني باقٍ، ولن يغير ملامحه، ولن يكون هناك أي حرب طويلة وواسعة، مع إيران ضمن لعبة الاستراتيجيات النفعية المصلحية، في المنطقة، والتي ما زالت إيران تعرف كيف تلعبها وتستوعب ذلك إسرائيل، ومعها أميركا، وتترك الأمور للوكلاء أو الأجراء ومن ثم فإن الخسائر الكبرى تكون عند الوكلاء، وعلى أراضيهم، من أمثال الحوثيين أو النظام السوري/ أو حتى ميليشيا حزب الله، أو (الحشد الشعبي) العراقي، التابع لإيران ولولاية الفقيه.