منذ خمسة أيام، مرّت باستحياء الذكرى الثانية والعشرون لـ "تحرير جنوب لبنان". وفي واقع الأمر وحقيقته، أنه في الخامس والعشرين من أيار عام ألفين، قرر المحتل الإسرائيلي الخروج من الجنوب، لأنه ضَمِن بأن "حزب الله" سيكون الحارس الأمين للحدود الشمالية للكيان؛ تماماً كما حرست منظومة الاستبداد الأسدية الحدود من جانب الجولان لعقود، وأراحت إسرائيل من "الخطر القادم من الشمال"، الذي تحدّث عنه بنغوريون في مذكراته. تأتي هذه الذكرى بعد أيام من انتكاسة انتخابية لحزب الله، حَرَمَتْه من أغلبية نيابية تشرعن مهمته في الحراسة، وممارسته البلطجة في لبنان، ونشره الدم والمخدرات في سوريا ومحيطها.
ها هي نار انتخابات لبنان البرلمانية تخمد، والشرر يتوارى؛ ولكن في قاع الحريق يرقد جمر تابع "لنترات الأمنيون"؛ فأي شكل أو زي أو عمامة ستلبسها حياة لبنان السياسية في القادم من أيام؟! فبعد عناء وتراكم مواجع وخيبات وانتفاضات وتخطيط وجهود، قَلَبَ لبنان موازين قوة مصنّعة بأيد خارجية كادت تأتي على لبنان الجميل، وتحوله إلى ثكنة "خامينائية" تقرر مصير البلاد والعباد بالحديد والنار، وسلطة "وليّ الفقيه" وأدواتها التنفيذية. يستحق لبنان التهنئة على خطوة موفقة نحو إزاحة الغطاء السياسي عن حزب الله في لبنان، وبارقة أمل في تثمير الحراك المدني في ٢٠١٩؛ ولكن ما هي مآلات ما حدث داخلياً وإقليمياً؟
لبنان يتنفس طائفيا؛ ونتائج انتخاباته الأخيرة، جعلت رئته تعمل بنسبة ١٢٪ بشكل طبيعي، وهذا إنجاز وارتقاء من حالة صفرية ميؤوس منها
في ظاهرها، نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية للبعض مبهجة، تحمل نشوة الحرية وانتصار إرادة الحق؛ ولآخرين، غيظ وقهر وهزيمة لتشبيح السلاح والعمالة لملالي طهران والأسدية. وفي عمقها وبواطنها، تصعُب قراءة القادم من أيام لبنان؛ لكنها ستكون بغاية الصعوبة وربما المزيد من الوجع. فلبنان يتنفس طائفيا؛ ونتائج انتخاباته الأخيرة، جعلت رئته تعمل بنسبة ١٢٪ بشكل طبيعي، وهذا إنجاز وارتقاء من حالة صفرية ميؤوس منها، لا يجوز التقليل من قيمتها؛ ولكن هل نسبة الشفاء هذه كافية لعودة لبنان لحياة عفيّة؛ وهو لا يزال محاصراً بالطائفية السياسية المحمية أميركياً وإيرانياً وعربياً؛ والكل فيه ضد الكل، وينسق معه في الوقت ذاته، ووجوده مرتبط بوجوده؟!
ميزة لبنان المتأصّلة أنه ساحة تعج بالمتغيرات، وتظهر فيه قوى وتحالفات جديدة؛ فها هي القوى المتجذرة سلفاً تبدأ بالتنافس على اجتذاب عناصر التغيير؛ والهدف تشكيل أكثرية، حتى ولو مشلولة نتيجة المرض الطائفي المستعصي. ينتشي البعض بإسقاط أكثرية المحور الإيراني-الأسدي في مجلس النواب اللبناني، ولكن يربكه ما سيكون عليه تصرف الأغلبية الجديدة بعد تشكلها. على المدى القريب ستحتدم المعارك بين قوى اهتز كيانها كحزب الله وحلفائه، الذين شكلّوا أغلبية نيابية، وقوى أخرى استشعرت بعض الانتعاش؛ لكنها مُربَكة بتغيّر طبيعة التحالفات القادمة وأشكال المعارك السابقة.
وتبقى الأسئلة الحاسمة حول ما سيكون عليه زمن لبنان القادم؛ فهل بداية هذا الإنجاز الأخير كافٍ لحدوث ما تطمح إليه بعض الأرواح اللبنانية المتعبة؟ ألم يفلت حزب الله مثلاً من العقاب في قضية الشهيد رفيق الحريري؟ ألم يبقَ للآن طليقاً بعد آلاف الشهداء السوريين؟ وهل هناك أثر أو قلق لديه تجاه تفجير المرفأ كأخطر عدوان يتعرض له لبنان؟ وهل قرر حزب الله مثلاً التراخي في دعم حلفائه في الانتخابات، كي يقنّن بالأموال المصروفة، طالما الممول لم يصل بعد إلى تجديد اتفاقه النووي الموعود؛ وبذا يلوذ بوجهه في قليل من الظل بعيدا عن الواجهة السياسية اللبنانية، في وقت تتصاعد فيه العقوبات والنقمة الشعبية؟!
لم لا، والسلاح السياسي لم يكن الضرورة الأساسية للحفاظ على سطوته، بل إنه السلاح الموجه إلى صدور اللبنانيين، إن تمردوا، والجيران "الأشقاء" حين تقتضي الحاجة الإيرانية. قد تكون الثقة بالنفس - بشيء من الصلف - ما دعا حزب الله إلى التراخي قليلا في دعم حلفائه في الانتخابات. إنها ثقة مبنية على سطوة السلاح؛ فلا خشية من موقف سياسي شجاع لنائب يعترض على السلاح خارج مؤسسات الدولة، طالما كان هذا السلاح بعينه كفيلا في تحييد هذا النائب، دون محاسبة.
من جانب آخر، عندما يكون سلاح حزب الله المدعوم من إيران، وعلى مرأى من العالم أجمع؛ لا يجوز تحميل الشعب اللبناني مسؤولية مواجهة هذا السلاح محليا؛ إذ إنه إقليمي، ويعلم السوريون وكل من واجه أذرع إيران أنها مواجهة غير عادلة ومكلفة، بل إنها مسؤولية إقليمية ودولية، لا يجوز أن يدفع ثمنها الشعب اللبناني، وإنما هي مسؤولية من يعقد صفقات نووية وغيرها مع المشغل الإيراني. وتبقى الخشية أن مَن حمى العصابة المجرمة في سوريا، وسمح لميليشيات حزب الله الطائفية وحرس الملالي ومجرمي بوتين بقتل السوريين وتدمير بلدهم وتشريدهم، قد يتيح لحزب الله أن يتابع الجرعة الإجرامية في لبنان، أكبر مما هي عليه الآن عند اللزوم.
طبيعة هجومه على القدماء معروفة، وللجدد تهمة العمالة جاهزة لديه. وكل هذا محمول؛ ولكن ما لن يكون محمولا هو هروب حزب الله إلى مواجهة مع إسرائيل حول غاز المتوسط
سيكون هناك محاولة لسد الآفاق في وجه حزب الله وتوابعه، وملحقات منظومة الاستبداد في دمشق. سنشهد خلق "خلطة" ربما تمكّن النفَسَ السياسي الجديد من التكاتف مع نهج قديم سعى لحصار مَن يحاصر لبنان. ومن جانبه، لن يتحمّل حزب الله، وسيقاوم بشراسة أي حصار محتمل. طبيعة هجومه على القدماء معروفة، وللجدد تهمة العمالة جاهزة لديه. وكل هذا محمول؛ ولكن ما لن يكون محمولا هو هروب حزب الله إلى مواجهة مع إسرائيل حول غاز المتوسط.
يشغل لبنان اليوم، "رئاسة البرلمان"، وأبديتها؛ وهذا ليس بمشكلة؛ فقد عاش معها لبنان منذ أن اختارت أميركا وحافظ الأسد "نبيه بري" لرئاسته. ولا ننسى أيضاً "رئاسة الحكومة" والتجاذبات الطائفية؛ وهذه أمور معتادة؛ ولكن المخيف أن يتم ابتلاع المضاد الحيوي الجديد، ونسبته ١٢٪ وتحويله إلى قطعات هجوم على الجسد الطائفي المتهالك، ليصبح جزءاً من المرض. فالمرض ذاته كان البيئة المناسبة لاستشراء "حزب الله" واستشراسه. شفانا الله، وشفاكم أيها الإخوة...