دخل دولت بهتشلي، رئيس "حزب الحركة القومية" اليميني، على خط "الغزل" الذي لم يعمر طويلًا بين قيادات "حزب العدالة والتنمية" في الحكم و"حزب الشعب الجمهوري" في المعارضة، وأسقط هذه الورقة من يد الطرفين لأنها ستكون على حساب حزبه الذي تتراجع شعبيته باستمرار حسب استطلاعات الرأي.
الرسائل التي أراد بهتشلي إيصالها عقب لقاءين بين أوزال وأردوغان في أيار وحزيران، في إطار عملية "تليين" المواقف وفتح الطريق أمام الانفراجة السياسية، هي أن الذهاب بعيدًا في عملية التطبيع مع "حزب الشعب الجمهوري" يُهدد استمرارية تحالف الجمهور، خصوصًا إذا كانت مُصممة كبديل عن التحالف مع القوميين.
فهم حزب الشعب المعارض التطبيع والليونة في الحوار الحزبي والسياسي الأخير على أنها فرصة للإيقاع بين أردوغان وبهتشلي، فقطعا الطريق على حلمه هذا من خلال تجديد التمسك بتحالف الجمهور القائم بينهما منذ عام 2018. لكنه بقدر ما هناك قلق وتخوف في صفوف البعض تحت سقف تحالف الجمهور من الحوار الحاصل بين أردوغان وأوزال، هناك أيضًا استياء في صفوف قيادات وقواعد المعارضة ووسائل إعلامها بسبب ما يجري، خصوصًا أن "حزب الشعب الجمهوري" هو الحزب الأول اليوم في البلاد حسب غالبية استطلاعات الرأي.
آخر ما بين أيدينا حول العودة إلى الاصطفافات الحزبية الكلاسيكية هو كلام الرئيس أردوغان، حول أنه يفهم التطبيع والليونة على أنها مسألة مراجعة المعارضة لمواقفها وأساليبها. ورد رئيس حزب الشعب أوزغور أوزال عليه بقوله إنه كان يريد دفع الأمور نحو مسار جديد في العمل الحزبي والسياسي لكنه وصل إلى طريق مسدود، "نحن لن نطالب بانتخابات مبكرة إلا إذا كانت مطلبًا للشعب. لدينا 127 نائبًا في البرلمان، وهذا لا يكفي لطلب إجراء انتخابات مبكرة".
عامل الوقت مهم الآن بالنسبة للجانبين. الحكم يريد تسجيل اختراق سريع في ملفات الإصلاح الاقتصادي والمالي والمعيشي، والمعارضة تريد البناء على نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة والاستعداد للمطالبة بالذهاب المبكر إلى الصناديق استجابة لرغبة القواعد.
الأرقام والمعطيات تقول إنه دون رغبة الحزب الحاكم وقرار الرئيس أردوغان لا فرص لانتخابات مبكرة. رقم 360 نائبًا هو المطلوب لتحقيق خطوة بهذا الاتجاه وهو ما لا تملكه الاصطفافات الحزبية لفرض خيارها تحت سقف البرلمان. البديل الآخر هو أن يعلن أردوغان عن فسخ البرلمان ويتنحى. المفاجأة المبكرة هي إعلان أوزال أنه جاهز لبحث سيناريوهات التفاهم حول ترشيح أردوغان نفسه مرة أخرى ودخول المنافسة إذا ما كان يثق بقدرته على الفوز من جديد. لكن كليهما يدرك أنه ينبغي التريث لعام آخر على الأقل ريثما يحصل عشرات النواب الجدد على حق راتب التقاعد والاستفادة من امتيازات خدمتهم القانونية تحت سقف البرلمان.
يخطئ من يعتقد أن الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية لم ينجزا بعد عملية البحث في أسباب تراجع أصوات الحزب وهزيمة الانتخابات المحلية التي جرت قبل 3 أشهر، ووضع خطط التعامل مع النتائج وتبني استراتيجية تحرك جديد بأكثر من اتجاه. كل المؤشرات والتجارب السابقة مع الرئيس التركي وحزبه تقول إنهما لن يتجاهلا قرار الصناديق ورسائل الناخب، وأنهما لن يكتفيا بالإعلان أنهما على رأس الحكم والسلطة السياسية في البلاد لأربع سنوات قادمة حسب النصوص الدستورية وقانون الانتخابات.
رسائل أردوغان الأخيرة بعد لقائه بحليفه دولت بهتشلي تقول إن الأخير أقنعه وأخذ ما يريد، خصوصًا أن الرئيس التركي رمى كرة التصعيد والتوتير في صفوف المعارضة وحملها مسؤولية الرهان على الأزمات وافتعالها لإبقاء أجواء الداخل دائمة الاحتقان والاحتفاظ بالناخب إلى جانبها. لكن المشكلة هي في طريقة التعامل بين جناحي تحالف الجمهور ورؤيتهما للحلول والخطط الواجب اعتمادها لاسترداد ما خسراه من أصوات. أردوغان يريدها أن تكون مرحلة انتقالية هادئة سلسة فيها الكثير من الليونة والانفتاح وتبريد أجواء التصعيد والاحتقان السياسي للوصول إلى الهدف المنشود. وحليفه حزب الحركة القومية اليمني وزعيمه دولت بهتشلي يقول إن الانفتاح على حزب الشعب والجلوس مع رئيسه ومحاورته لا يخدم أهداف التحالف السياسية ولن يعيد له ما فقده من شعبية، بل سيقوي المعارضة أكثر فأكثر.
تراجعت سريعًا لغة الليونة والحوار بين الحكم والمعارضة، لكن ذلك لا يعني أن أردوغان سيلتزم بنصائح بهتشلي الذي دفع حزبه الثمن الباهظ في الانتخابات الأخيرة.
تراجعت سريعًا لغة الليونة والحوار بين الحكم والمعارضة، لكن ذلك لا يعني أن أردوغان سيلتزم بنصائح بهتشلي الذي دفع حزبه الثمن الباهظ في الانتخابات الأخيرة. تدرك قيادات العدالة والتنمية أن الاصطفافات والعودة إلى قلاع وقواعد المواجهة لن تكون في صالحها، وأن الليونة الحزبية والسياسية لا مفر منها في الأشهر القادمة بانتظار اتضاح نتائج خطط وبرامج الإصلاح والتغيير التي يقودها الوزير محمد شيمشاك منذ أشهر لمعالجة مشكلات تركيا الاقتصادية والمالية. لن يبدل أردوغان في مواقفه المعلنة في الأسابيع الأخيرة ونبرة الليونة والتهدئة والحوار، ويضحي برهانه على فريقه الاقتصادي والمالي الجديد قبل اتضاح المشهد ومعرفة نتائج جهود إزالة العقبة الأولى والأكبر اليوم التي تعترض طريق الحزب الحاكم والتي تسببت في خسارة آذار المنصرم.
مهم طبعًا الإصغاء إلى بهتشلي السياسي المخضرم والتنبه إلى تحذيراته حول أن المبالغة في الليونة قد تضر بمصالح تحالف الجمهور وقد تخدم حزب الشعب الجمهوري المعارض. لكن الرئيس التركي يعرف جيدًا أنه دون سحب أوراق كثيرة من يد المعارضة التي تحركها ضده وأهمها ورقة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، لن يتمكن من استرداد ما فقده من شعبية. تمسك أردوغان باستراتيجية التهدئة الإقليمية والانفتاح على الكثير من العواصم وتبديل اللغة والأسلوب في التعامل مع العديد من الملفات الخلافية يعني أن الرئيس التركي يدرك أن شرط البقاء في الحكم ومواجهة المعارضة يتطلب اعتماد الأسلوب نفسه في الداخل، بعيدًا عن سياسة التصعيد والاصطفافات، خصوصًا في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة لأن ارتداداتها ستكون أكثر كلفة مما عاشه قبل 3 أشهر.
لن تشهد البلاد حتمًا مفاجأة ولادة تحالف سياسي بديل يقرب حزب العدالة من حزب الشعب الجمهوري. لكن قرار الناخب ورسائله في آذار تقول إنه لا يريد المزيد من أجواء الاحتقان التي ستنعكس على ملفات الاقتصاد والمعيشة، وأن من يذهب بهذا الاتجاه سيتحمل مسؤولية خياراته. وأنه إذا كان أردوغان يبحث عن فرص ووسائل إبقاء حزبه في الحكم فإن إرضاء الحليف بهتشلي شيء، والبحث عن أدوات امتصاص الهزيمة والخروج من المحنة بواقعية وبراغماتية شيء آخر. مهمة أردوغان صعبة هنا. قد لا يكون ملزمًا بالخيار بين أوزغور أوزال ودولت بهتشلي ربما، لكنه قد يكون ملزمًا بالخيار بين ما يقوله ويريده دولت بهتشلي وما يتطلع صوبه حزب العدالة والتنمية إذا ما كان يريد الاستمرار على رأس السلطة.
قد تكون مقولة أن لا انفتاح سياسيا على المعارضة يتم على حساب تحالف الجمهور هي المعتمدة حتى اليوم. وقد تكون قيادات العدالة والتنمية تعول على تراجع سريع في شعبية حزب الشعب الجمهوري الذي ينتظره انشقاقات ومواجهات جديدة بين كمال كليتشدار أوغلو وأوزغور أوزال. لكن تقديرات آخر استطلاع رأي معلن قبل أيام تقول إنه لا تغيير بعد في ترتيب الأحزاب وحصصها عند الذهاب من جديد إلى الصناديق. الشعب الجمهوري ما زال الحزب الأول والعدالة والتنمية في المركز الثاني. وأن أصوات تحالف الجمهور لم تمنحه الفوز في المدن التركية الكبيرة والثمن الذي قدمه لإرضاء الشركاء كان باهظًا. وأن ورقة تحالف الجمهور قد تكون مهمة في هذه الآونة لكنها لن تتحول إلى خشبة الخلاص التي تنقذ حزب العدالة بحسب استطلاعات الرأي هذه.
يدرك حزب العدالة أن عليه تبديل الكثير لناحية الأسلوب وطريقة التعامل مع المسائل لأن خياراته محدودة. هو ينتظر ربما نتائج وأرقام خطط الإصلاح الاقتصادي والمالي التي سيقدمها الوزير شيمشاك المتفائل بأن مغادرة "الرمادي" باتت قريبة. لكنه يعرف أن ما ينتظره هو أيضًا إزالة ارتدادات العقبة التي ترى القواعد الحزبية أنها في مقدمة أسباب تراجع الأصوات، وهي نفسها مركز الثقل والقوة التي دعمت الحزب في الأعوام الأخيرة: علاقته بتحالف الجمهور ومتطلبات إرضاء بهتشلي، وتوسيع دائرة التحالف عبر استقطابات سياسية وحزبية صغيرة لكسب المزيد من الأصوات على حساب الكثير من طروحات وشعارات وأهداف الحزب المرفوعة قبل عقدين.