جاء تصويت مجلس النواب الأميركي يوم الخميس الفائت على مشروع قانون يُلزم البيت الأبيض بسحب القوات الأميركية من سوريا، سالباً، في غير ما اشتهت سفن المتعجّلين من النواب الأميركيين على مغادرة سوريا، بل ومعظم قواعد الانتشار في الشرق الأوسط. وأُغلق التصويت بـ 321 صوتاً يرفض الانسحاب مقابل 103 أصوات يطالب أصحابها من النواب بالمغادرة خلال مدة أقصاها 180 يوماً.
وبالرغم من أن عديد القوات الأميركية على الأرض السورية المنتشرة بين شمال شرق الفرات وقاعدة التنف في الجنوب لا يتجاوز 900 جندي وخبير، إلا أن هناك تيارا سياسيا يريد انسحاباً كاملاً من سوريا، وإعادة القوات الأميركية إلى البلاد من معظم البؤر الساخنة في المنطقة، والجاهزية لمواجهات أميركية محتملة تتجه نحو أقصى الشرق.
أما الحدود الطويلة والممتدة لتركيا - حليف الولايات المتحدة في الحلف الأطلسي - فتقع في عين الخلاف بين واشنطن وأنقرة حول الراهن الجيوسياسي في الشمالين السوريين (شرق الفرات وغربه)، وبخاصة في وطأة العداء المستطير بين تركيا والقوات الكردية، والأخيرة هي شريك أيضاً لواشنطن، وحليف موثوق في حربها على داعش، وتتلقى دعمها اللوجستي والعسكري والسياسي مباشرة من البنتاغون.
وما زيارة رئيس الأركان الأميركية، مارك ميلي، مؤخراً لشرق الفرات، وهي زيارة نادرة لمسؤول عسكري أميركي بهذا المستوى، إلا تأكيد على التزام أميركا بدعم شركائها، بل واستمرار حضورها ضمن قواعدها العسكرية هناك، وربما حتى خروج آخر مقاتل من ميليشيات إيران في سوريا.
وإذا تساءلنا في هذا السياق ما الذي يمكن أن يترتّب على انسحاب أميركي قد يحدث في زمن - ليس بالقريب على أية حال - فكيف ستأتي الإجابة؟
الأفدح الذي سيحدث حال الانسحاب الأميركي، إنما يكمن في فتح الطريق واسعاً لملء الفراغ الحادث بقوات إيرانية وأخرى روسية هي في انتظار هكذا فرصة
برأيي، وفي تصور العديد من المراقبين والمؤثرين في صناعة القرار الأميركي، أن انسحاباً أميركياً من سوريا لن يؤدي إلى حملة عسكرية جديدة لتركيا كما يتخوّف البعض، وقد حدث فعلاً خلال محاولة إدارة ترامب الانسحاب في عامي 2018 و 2019، تلك الحملة التي أسفرت عن تغيير ديموغرافي ونزوح هائل في الشمال، مرافَقاً مع موجة واسعة من اللجوء نحو أوروبا؛ إلا أن الأفدح الذي سيحدث حال الانسحاب الأميركي، إنما يكمن في فتح الطريق واسعاً لملء الفراغ الحادث بقوات إيرانية وأخرى روسية هي في انتظار هكذا فرصة لتبسط سيطرتها على منطقة شرق الفرات الحيوية، المنطقة التي ترتبط مع العراق بحدود طويلة ستساعد إيران في رسم الهلال الجيو ـ شيعي، الطريق الذي سيكون درّة عمامات الملالي الحاكمين ممن أسسوا ميليشياتهم العابرة للحدود لتحقيق هذا الغرض الاستراتيجي الذي سيربط طهران بساحل المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان، ويكون ممراً يسيراً لنقل معداتها العسكرية ومقاتليها إلى حزب الله في لبنان، وإلى الميليشيات المشتقّة عن الحزب، والتي تديرها طهران في الدول العربية الثلاث.
أما بالنسبة لروسيا فأي انسحاب أميركي سيكون فرصة لها لإعلان انتصارها (ولو الشكلي) على المشروع الأميركي في سوريا، وسبباً مباشراً للتسريع في عملية إعادة تأهيل حليفها، بشار الأسد، من خلال فرض حلول سياسية ضيقة وموضعية تتجاهل القرار الأممي رقم 2254، وتستدعي عودة سوريا بنظامها الحالي المتهالك إلى الجامعة العربية، ثم تفتح على خجل بعض البوابات للتطبيع الإقليمي والدولي مع نظام الأسد. وليست مساعي موسكو بجمع المسؤولين الترك والسوريين بشكل متّصل، وعلى عدة مستويات رسمية رفيعة، إلا تباشير لحملة التطبيع التي تقودها موسكو.
أما المشكلة التي تواجهها واشنطن في شرق الفرات، وهي قائمة سواء انسحبت أم بقيت في سوريا، فهو اقتصار جهودها على التمكين العسكري (حصراً) للقوى الكردية المقاتلة في مكافحتها عناصر داعش ودعم حراستها للمخيمات التي تم احتجاز عائلات التنظيم الإرهابي فيها وكذا السجون التي احتجز فيها المسلحون.
فواشنطن لم ترفق هذا الدعم اللوجستي بتأهيل ملحوظ للبنية التحتية في شرق الفرات، أو بالمساعدة على تأهيل المجتمع المدني والإدارة الذاتية بهدف استقرارهما (في حال انسحابها)، وكذلك دعم مشاريع التنمية الأساسية التي ستساعد السكان في مواجهة الفراغ الأمني الذي يشكله أي انسحاب أميركي محتمل، وذلك تجنّباً لتكرار كابوس الانسحاب السيئ السمعة من كابول، والذي سيبقى وصمة عار في تاريخ إدارة الرئيس بايدن.
على السياسة الأميركية الخارجية، وخصوصاً في الحالة السورية، أن تغادر قوقعة البحث عن "المصالح الآنية" إلى رحاب الشراكة المستدامة مع الحلفاء
من نافلة القول إن واشنطن، وعلى امتداد عقد ونيف على الحرب الدائرة في سوريا، لم تستطع أن تبلور استراتيجية مفيدة وفاعلة، ليس لاجتراح حلول وحسب، بل لوضع آليات واضحة وحازمة لتطبيق الحلول. فعلى السياسة الأميركية الخارجية، وخصوصاً في الحالة السورية، أن تغادر قوقعة البحث عن "المصالح الآنية" إلى رحاب الشراكة المستدامة مع الحلفاء.
فبينما يتمتع النظام بحلفاء أشداء يهبّون لنجدته كلما تسنّى لهم الأمر ولم تتعارض مصالحهم العليا مع دعم النظام ورأسه، نجد المعارضة على الضفة الأخرى في حالة قلق مستمر وريبة من إخلاص ذاك المسمّى حليفاً، إقليمياً كان أم أميركياً أم عربياً.
فصل المقال يكمن في الموقف الجوهري للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط تزامناً مع زيارة وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميلي، إلى سوريا والمنطقة، والتي تبدو كأنها صحوة سياسية أميركية في حقل سياساتها الخارجية بهدف العودة إلى منطقة كاد التخلي عنها يكلّف واشنطن الكثير من الخيبات، وعلى العديد من الصعد، الاقتصادية والسياسية والأمنية.
فهل يستطيع السوريون، كرداً وعرباً، أن يقولوا اليوم، ودونما وجل: "نعم، لدينا حليف قوي وقادر لن يتخلى عنا".
أتساءل!