لم تكن الفرصة سانحة أمام النظام السوري لإيجاد تخريجات مقنعة فيما يتعلق بتمرد مجموعة فاغنر الروسية، فاجأه الحدث وأربكه، وقبل أن يستوعب الصدمة، ثم جاء خبر التراجع عن التمرد، وبات عليه أن يبحث عن موقف تجاه الحدثين من خلال أكذوبة متقنة لا تثير غضب بوتين، فوقع كالعادة في مصيدة التناقضات والسفسطة والمماحكة ولكن بشكل أكثر فجاجة هذه المرة.
ورغم خبرته الطويلة في الكذب وصناعته، ورغم أنه لم يحترف سوى الكذب في تعاطيه مع السياسة، إلا أنه لا يزال يعتمد الكذب الفج، الكذب المكشوف المحمي بالوقاحة، وليس الكذب السياسي المتعارف عليه لدى كل الأنظمة السياسة.
تشترط الكذبة السياسية المستخدمة في الدعاية لنظام سياسي ما، والتي تستهدف التملص من شبهة أو تبرير موقف، أو غسل جريمة، أن تكون متأسسة على منطق متساوق مع منطق الكذب نفسه -إن كان للكذب منطق- منطق قادر -في الحد الأدنى- على إقناع المتماثلين والمتشاركين في التهمة بوجهة النظر التي تحاول الكذبة الدفاع عنها، وبالحد الأدنى أيضاً أن تكون قادرة على خداع الأتباع، أو إجهاد الخصوم قليلاً في تفنيدها وإيجاد الطرق المفحمة للرد عليها.
غير أن النظام السوري لا يفرق بين مفهوم الكذب السياسي ومفهوم الوقاحة والصفاقة اللذين حددا أسلوبه المتكرر في طريقة تبرير أفعاله ومواقفه خاصة بعد اندلاع الثورة السورية.
ورغم أكثر من اثني عشر عاماً من صراع النظام على البقاء وعمله الدعائي القائم على مصنع الكذب في تعامله السياسي مع الداخل والخارج أو خطابه في وسائل إعلامه، إلا أنه لم يتعلم كيف يصنع كذبة متقنة وكيف يسوق لأكاذيبه بطريقة احترافية.
ويبدو أن السبب الأساسي لذلك، لا يعود فقط لافتقاره للفعل السياسي، بل أيضاً لثقته بأنه غير مضطر لبذل الجهد في تحسين شكل أكاذيبه، فهو يعتمد على القوة وحدها في إقرار الحقائق متسلحاً بقدرته على اعتقال أو قتل كل من لا يصدق كذبه، سواء جاهر بذلك، أو استبقاه في سره، فللنظام جواسيسه المتخصصون بمراقبة نوايا المواطنين وأسرارهم ومعرفة إن كانوا لا يصدقون كذبه لإحالتهم على الفور إلى الجهات المختصة.
يعتمد النظام على الإنكار والتلفيق والتزوير المعلن، فإن قتل أحداً أو ارتكب مجزرة، يقوم بالإنكار حتى وإن كانت جريمته مسجلة بالصوت والصورة، وعلى المواطنين الخاضعين لسلطته أن يصدقوه ويكذبوا الوقائع التي رأوها، وإن لفّق تهمة خيانة لمواطن ما، أو لملايين المواطنين، فعلى السوريين القابعين تحت سلطته أن يروّجوا لتلفيقاته وكأنها الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الشك مهما كان الزيف واضحاً، فعقوبة عدم تصديق كذب النظام وعدم تبني تلفيقاته ونشرها هي عقوبة معروفة مسبقاً للمواطن الذي بات سقف حلمه أن يتجنب إغضاب النظام أو إثارة شكوكه.
لا يفهم النظام السياسة إلا على أنها مزيج من العنف والتوحش والهمجية، ومن خلال ذلك وحده يفرض روايته ووجهة نظره
أما على مستوى الخارج، فإن كذب النظام وتلفيقه سيكون مدعوماً بقوة الحليف، ولهذا كله لا يلقي النظام بالاً للفضائح التي تناله من خلال هشاشة الكذب الذي يمارسه.
لا يفهم النظام السياسة إلا على أنها مزيج من العنف والتوحش والهمجية، ومن خلال ذلك وحده يفرض روايته ووجهة نظره، ولا تزال كل أكاذيبه وصياغاته السياسية لتلك الأكاذيب لا تتجاوز سقف الواقعة الشهيرة التي برر فيها خروج الناس إلى الشوارع في مظاهرة حاشدة، بأنهم خرجوا يشكرون الله على نعمة المطر.
يظهر الغباء الإعلامي في صناعة الكذب بشكل أكثر فجاجة في الأحداث التي تفاجئ الماكينة الإعلامية للنظام والتي يضطر للتعليق عليها بشكل فوري، حدث ذلك كثيراً، ولكن حادثة تمرد فاغنر، أظهرت شكلاً غير مسبوق فيما يتعلق بازدراء النظام لأتباعه وحلفائه من خلال التناقض الصارخ في طريقة رتقه للثقوب السياسية التي تتكاثر في ثوبه الملطخ بكل أنواع الارتكابات.
سيطرت حالة من الرعب والارتباك على إعلام النظام خلال ساعات التمرد القصيرة، ولكنه واجه مشكلة أكبر بعد عودة الهدوء إلى روسيا، مشكلة تتمحور في البحث عن التخريجات الأقل تناقضاً، فإدانة التمرد ستوقعه في مأزق، وعدم إدانته ستوقعه في مأزق أكبر، ولم يكن أمامه سوى العودة إلى مرجعيته الأساسية والمتمثلة في الصفاقة وحدها.
ورغم إجماع الدول -بمن فيها داعمو مجموعة فاغنر والمؤيدون لنشاطها الإجرامي- على تصنيف تلك القوات على أنها مجموعة مرتزقة، ورغم إقرار المجموعة نفسها بشكل غير مباشر بأنها كذلك، إلا أن النظام السوري أبى إلاّ أن يصنفها -وعلى مدار سنوات طوال- على أنها مجموعة عسكرية وطنية تقوم بمهمات عظيمة وتحارب الشر الموجود حول العالم، وكان على مدار السنوات السابقة يشيد بعملها و"أخلاقياتها" و"بسالتها" التي لا تقل عن بسالة جيشه.. وبلمح البصر، كان على النظام السوري أن يغير رأيه إلى النقيض في مجموعة فاغنر التي لا تزال أعداد كبيرة من عناصرها تعمل في سوريا لحسابه وحساب بوتين، دون أن يجرؤ على اتخاذ قرار بطرد عناصرها أو التعرض لهم، الأمر الذي أوقعه في وحل جديد من التناقض الذي لا يجدي معه أسلوب الوقاحة التقليدي.
وإلى أن يجد التخريجات الأقل تناقضاً، لم يكن أمام النظام إلا اتباع الإعلام الروسي والقيام بالقص واللصق لآراء الأبواق الإعلامية الروسية وتحليلاتهم، الأمر الذي أظهر بوضوح شديد صورته الممسوخة، والعاجزة عن خلق خطاب يصلح حتى للاستهلاك الداخلي.
وفي هذا السياق، راح إعلام النظام يطلق على مجموعة فاغنر كل التوصيفات التي كان يستخدمها خصومه، فبدا وكأنه يلتقي مع أولئك الخصوم في ذات الرأي حول قضية محددة، مما زاد من تشويه صورته المشوهة أصلاً.
ورغم كل ذلك الارتباك، فإن النظام السوري لم يستطع أن يخفي سعادته بالنهاية الرومانسية للتمرد العسكري الذي حدث في روسيا، بل ظهر -في الواقع- أكثر سعادة حتى من النظام الروسي ذاته، ظهر ذلك واضحاً على حالة إعلاميه وأبواقه الذين راحوا يعبرون بحماسة عن تلك الفرحة، من خلال إعلان الشماتة بالغرب الذي عول كثيراً -على حد رأيهم- على انقلاب في روسيا يغير المعادلة الدولية برمتها لصالح أعداء بوتين، وما إلى ذلك من الشعارات المحفوظة.
يقف النظام السوري اليوم على قدمين اصطناعيتين مستعارتين إحداهما في موسكو والأخرى في طهران، ولذلك نجده سباقاً في إدانة أي حدث يشكل خطراً على إحدى الدولتين،
كشف النظام أيضاً -ومن خلال الخطاب الكيدي الذي قدمه إعلامه-، عن أنه كان الأكثر رعباً وقلقاً أثناء حدوث ذلك التمرد القصير، فما يعني النظام بالدرجة الأولى هو مصيره الشخصي ومصير أفراده والمجموعة المرتبط وجودها بشكل أساسي باستمرار القوة والهمجية الروسية ونظامها المافيوي، فأي تصدع في المنظومة الروسية ستكون له ارتداداته على واقع العصابة الحاكمة في دمشق، أما كل حديثه عن المعادلات الدولية والسياسة الدولية والمتغيرات الدولية المحتملة على خلفية التمرد، فهي محض تشدق.
يقف النظام السوري اليوم على قدمين اصطناعيتين مستعارتين إحداهما في موسكو والأخرى في طهران، ولذلك نجده سباقاً في إدانة أي حدث يشكل خطراً على إحدى الدولتين، كما حدث مثلاً أثناء المظاهرات الحاشدة التي شهدتها إيران منذ أشهر، والتي انبرى النظام لإدانتها وتجريمها باندفاع أشد من اندفاع النظام الإيراني نفسه، وكذلك كل ما يتصل بإيران وإشكالياتها مع المجتمع الدولي، فهو يسارع إلى معاداة من يعادي إيران والتحالف مع من يحالفها، فالنظام السوري يدرك وجوده الهش والمرمم كيفما اتفق، والمستند على قوة غيره.
غير أن لروسيا وقعاً آخر لدى النظام، فالقدم الاصطناعية التي يقف عليها في طهران تبقى هشة وعرجاء ولا تكفي وحدها للحفاظ على الجسد واقفاً، ورغم كل السطوة الإيرانية على مستوى المنطقة والدور الذي تلعبه على مستوى السياسة الدولية، إلا أن النظام يعول بشكل أكبر على موسكو الأقوى والأرسخ، ولكنه في كل الأحوال يعلن من خلال تصرفاته وخطابه عن قبوله بأن يكون مجرد مومياء، مجرد جثة متعفنة تقتات على الآخرين، ويعلن -دون أن يدري- أن أي انهيار لمحنّطيه يعني تفسخ جثته وانحلالها وتلاشيها
لا يمكن للنظام أن يدين فاغنر بشكل حقيقي، فهو لا يختلف عنها في شيء، بل هو جزء أصيل من منظومة الارتزاق التي تعمل لصالح قوى أخرى، ربما كان الاختلاف الوحيد أن فاغنر لم تعمل لصالح جهتين في وقت واحد كما يفعل نظام الأسد.
لا يزال النظام السوري يرتدي طاقية فاغنر ويحاول أن يسلخ جلده عن عظمها، وهي مهمة مستحيلة جديدة تضاف إلى كل مستحيلاته التي يحاول أن يجعلها واقعية بلا جدوى.