في مقابلة مع الممثل السوري باسم ياخور في برنامج "القرار" على قناة "الغد"، أثار الفنان السوري الموالي للنظام جدلاً واسعاً حول نقده الحاد لتزايد أعداد اللاجئين السوريين خارج سوريا، محيلاً ذلك إلى كثرة إنجابهم، قائلاً: "اللاجئ يعيش في بلد آخر، وليس لديه مقومات الحياة، ولا يجد الأكل والشرب، ولكنه ينجب ستة عشر ولداً".
انقسم السوريون بعد هذا التصريح بين مؤيد لرأيه ومعارض له، ليعود هذا الموضوع فيتصدر الحديث بين السوريين حول قضية تثير عدداً من التساؤلات المهمة التي يجب التوقف عندها وتحليلها، خاصة وأنَّهم يعايشون ظروفاً صعبة من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ويواجهون تحديات متعددة تتعلق بتوفير أدق احتياجاتهم الأساسية.
ومن بين التساؤلات التي يمكن أن تُطرح في هذا الموضوع: ما هي الأسباب الاجتماعية والثقافية التي تقف وراء ارتفاع معدلات الإنجاب بين اللاجئين السوريين؟ وكيف يمكن للتحديات الاقتصادية التي يواجهها اللاجئون السوريون أن تؤثر على قراراتهم بزيادة عدد أفراد الأسرة؟ وما هي العواقب الطويلة الأمد لهذه الظاهرة على المجتمعات المضيفة وعلى اللاجئين أنفسهم؟
يُعدُّ الإنجاب جزءاً لا يتجزأ من ثقافة السوريين المرتبطة بالعادات والتقاليد، فالعائلة الكبيرة هي بالنسبة لهم مصدر للقوة والدعم الاجتماعي، إذ كلما زاد عدد الأفراد الذين ينتمون إلى أسرة واحدة، عزَّز ذلك من وجودهم وتكاتفهم وتكافلهم. ولكن بعد أن نزحت العائلات السورية خارج سوريا، كانت تنازعهم رغبة في الحفاظ على هذه الهوية الثقافية المفتقدة، فعبَّروا عن ذلك من خلال زيادة أعداد أفراد أسرهم، ليؤكدوا ذواتهم في مواجهة التغييب الذي فرضه عليهم النزوح القسري من بلادهم. ولعلَّ هذا الشعور ليس الشعور الوحيد الذي يعاني منه النازحون السوريون، فالشعور بعدم الأمان وعدم الاستقرار قد أفرز لديهم وسيلة دفاع في مواجهة مستقبل مجهول لا يعرفون أين يحطُّ بهم رحله، فبدؤوا يتوالدون ويتزايدون، ليكون ذلك وسيلة دفاع نفسية واجتماعية، ونوعاً من الأمل في غد أفضل. الفكرة السائدة لدى بعض السوريين هي أنَّ وجود عدد أكبر من الأفراد يزيد من فرصة الأسرة في مواجهة شتى أنواع التحديات والشعور بالعزلة والاغتراب.
يرتبط ارتفاع معدلات الإنجاب بشعور الفقد، فقد عانت عائلات كثيرة من آلام فقد أحبابهم من أبناء وأخوة خلال الحرب ورحلة النزوح
ومن الواضح أنَّ معدلات الإنجاب ارتفعت بكثرة بين السوريين الذين يعانون ظروفاً اقتصادية صعبة، والدافع من وراء ذلك هو حصول بعض الأسر النازحة على المساعدات الإنسانية المقدَّمة من المنظمات الدولية وبعض القطاعات الأهلية الخاصة، إذ تأخذ هذه المنظمات بعين الاعتبار عدد أفراد الأسرة، وبالتالي فإنَّ المشكلة الاقتصادية من وجهة نظرهم غير موجودة طالما أنَّ هناك من يتكفل بتقديم الإعانات المادية لهم. ويرتبط الوضع الاقتصادي المتردي بتردي الوعي الصحي والتعليمي لدى بعض الأسر السورية، وهذا ما يجعلهم غير مدركين للنتائج التي قد يصلون إليها مع غياب وعيهم لأهمية تنظيم الأسرة، وأهمية التخطيط المستقبلي لإنجاب عدد إضافي من الأطفال. فقد يعانون نتيجة الجهل المرتبط بالفقر من العديد من الأمراض المتعلقة بالصحة والتغذية.
من جهة أخرى، يرتبط ارتفاع معدلات الإنجاب بشعور الفقد، فقد عانت عائلات كثيرة من آلام فقد أحبابهم من أبناء وإخوة خلال الحرب ورحلة النزوح، وقد ولَّد هذا الشعور بالفقد نوعاً من الإحساس بالفراغ العاطفي الذي يصعب سدُّه، فكان سلوكهم الإنجابي محاولة لملء الفراغ الذي تركه الراحلون، فالطفل هو الأمل والحياة المتجددة، وهذا السلوك يقف أمام نوستالجيا الماضي يقاوم عذاباته، وهو نوع من مواجهة الصدمة بنكرانها، والبدء من جديد. بالإضافة إلى أنَّ السوريين نزحوا إلى بقاع شتى، ما أدَّى إلى تفكك روابطهم الأسرية، فكان الإنجاب المتكرر وسيلة لإعادة خلق نواة أسرة جديدة تتطلع للنمو والتوسع من خلال استمرارية الإنجاب. فالعائلة الصغيرة ستتحول إلى عائلة كبيرة، وسيغطي هذا التنامي شعور النازحين بفقدان أسرهم الذين يعيشون بعيداً عنهم.
ولا يمكن في ظل هذه المعطيات -التي يراها كل سوري من وجهة نظر خاصة- أن نتجاهل النتائج السلبية لارتفاع معدلات الإنجاب بين النازحين السوريين. ومن أهم هذه النتائج المخاطر الصحية التي يتعرض لها الأطفال والأمهات على حدٍّ سواء نتيجة الأمراض التي يتم التعامل معها في ظروف خدمية طبية صعبة أو غير متاحة في بعض الأحيان، بالإضافة إلى المخاطر الصحية الناتجة عن سوء تغذية الأطفال والأمهات أثناء فترة الحمل أو الرضاعة التي قد تصل في بعض الأحيان إلى الوفاة.
من الضروري التعامل مع مسألة ارتفاع معدلات الإنجاب بين اللاجئين السوريين بمرونة وفهم عميقين، عبر تطوير استراتيجيات شاملة لمواجهة التحديات المرتبطة بالإنجاب في ظل ظروف النزوح
ومن جانب آخر، فإنَّ عبء هذا التزايد بين النازحين انعكس بشكل سلبي للغاية على المجتمعات المستضيفة للسوريين، من ناحية عدم قدرة البنية التحتية لهذه المجتمعات على استيعاب هذا التضخم على مستوى الصحة والتعليم والإسكان، ومن ناحية عدم تقبُّل الشعوب المستضيفة لفكرة هذا التزايد -غير المبرَّر برأيها- ما يخلق فجوة لا يمكن ردمها بين النازحين السوريين وبين السكان المحليين. إذ يُنظر إلى التزايد السكاني كعامل يزيد من التنافس على الموارد المحدودة، ويخلق مشاعر سلبية تجاه اللاجئين، يشكل عائقاً أمام عملية الاندماج بين المجتمعات وبين النازحين السوريين.
لذلك، من الضروري التعامل مع مسألة ارتفاع معدلات الإنجاب بين اللاجئين السوريين بمرونة وفهم عميقين، عبر تطوير استراتيجيات شاملة لمواجهة التحديات المرتبطة بالإنجاب في ظل ظروف النزوح. يتطلب هذا تعزيز برامج التوعية والتثقيف الصحي، ودعم السياسات التنموية التي تسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للاجئين، ما يساعد في تقليل الضغوط والآثار السلبية على اللاجئين والمجتمعات المستضيفة على حد سواء. وهذا الأمر يتطلب جهوداً منسقة لضمان أن تكون الحلول المقترحة تراعي حقوق الإنسان وتساهم في تحقيق الاستقرار والاندماج الإيجابي، كما أنَّ هذا النهج سيساعد على بناء مستقبل أفضل لجميع الأطراف المعنية، ويعزز التفاهم والتعاون بين المجتمعات المختلفة.