أوقفت مطالبة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أسابع المباحثات شبه المكتملة بين الدول دائمة العضوية إضافة لألمانيا وإيران حول ملف الأخيرة النووي. وكان مطلب الروس بمنزلة تحدٍّ لهذه الدول، فهم يشترطون ألا تؤثر العقوبات المفروضة عليهم من قبل أميركا والدول الأوروبية وحلفائهم على حريتها في التعامل التجاري مع إيران. الحجّة بسيطة ومعقّدة بالوقت نفسه، أليس من نتائج الاتفاق النهائية رفع العقوبات المفروضة على إيران من قبل الدول التي تدير الحوار معها؟ إذا سيكون من حق روسيا أن تشترط عدم تأثر تجارتها مع إيران أسوة بغيرها من الدول التي ستوقع على الاتفاق، خاصّة وأنها ستتكفّل بمعالجة موضوع المخزون الإيراني من المواد النووية الزائدة عن الحد المتفق عليه كما ستشرف على بناء بعض المنشآت النووية الإيرانية، وهذا يعني بالضرورة خرقاً للعقوبات المفروضة عليها من الغرب. لم يعدم الروس الوسيلة لخلط الأوراق في آخر لحظة من هذا الماراثون المتعِب والمرهِق للجميع.
يتلخّصُ السؤال المهم عربياً بنتائج إبرام الاتفاق على دول الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وهل سيختلف الوضع في حال تعثر هذا الاتفاق، وإلى متى! والحقيقة أنّ كل الاحتمالات خطيرةٌ من حيث نتائجها النهائية، وأحدُ أهمّ أوجه خطورتها أنّه ما من حضورٍ عربي على طاولة المفاوضات، فحتى المملكة العربية السعودية غائبة عنه وهي الدولة الخليجية الأكبر التي دخلت فيما يشبه حرباً بالوكالة مع إيران، والتي تهددها إيران النووية قبل غيرها. فهل سيشمل الاتفاق النووي البرنامج الصاروخي لإيران، وهل ستبقى مسألة توسّع إيران في دول الجوار من خلال ميليشياتها الطائفية العابرة للحدود خارج المعادلة، وهل سيبقى أمن الخليج والشرق الأوسط رهناً بنزوات نظامٍ مارقٍ غارقٍ بأحلامه الإمبراطورية التي لا تقوم إلا على أنقاض الدول والشعوب؟
إن صحّ ما تناقلته الأخبار عن رفض وليّ العهد محمد بن سلمان تلقي اتصالاً من الرئيس جو بايدن، وإن صحّ ما يُنسب له من تصريحات حول العلاقة مع أميركا، الحليف الاستراتيجي للمملكة، فإنّنا نكون أمام مشهد جديد بدأت تتضح معالمه
لا أحد يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة سوى أطرافها، ولو أردنا الوصول إلى الحقيقة وجب علينا الانتظار أشهر عدّة أو ربما سنواتٍ حتى نلمس لمس اليد ما تمّ الاتفاق عليه. ألم يكن لنا في سلوك إدارة أوباما الديمقراطية مثالٌ عمّا يمكن أن تقدّمه أميركا ومن خلفها أوروبا لإيران خلال المفاوضات؟ ألم يكن هذا الدمار المرعب في العراق وسوريا ولبنان واليمن نتيجة لإطلاق يد النظام الإيراني بمباركة أميركية غربية؟ فما الحال إذا حصلت إيران على تسهيلات كبرى من مثل الإفراج عن ودائعها النقدية في البنوك الغربية، وهل ستقف شهيتها عند حدود الدول العربية الأربع المذكورة أعلاه، أم ستنفتح باتجاه الأردن والبحرين وغيرها من الدول القريبة؟
من هنا جاءت تحركات المملكة العربية السعودية، فإن صحّ ما تناقلته الأخبار عن رفض وليّ العهد محمد بن سلمان تلقي اتصالاً من الرئيس جو بايدن، وإن صحّ ما يُنسب له من تصريحات حول العلاقة مع أميركا، الحليف الاستراتيجي للمملكة، فإنّنا نكون أمام مشهد جديد بدأت تتضح معالمه. لم يعد أغلب الحكام العرب على ثقة بالإدارات الأميركية، ألم تخذلهم على طول الخط منذ سقوط نظام صدام حسين وسيطرة إيران على العراق؟
إننا نشهد تقدماً حقيقياً في تموضع الحكومات العربية دولياً، فها هي تبحث عن علاقات تجارية مميزة مع الصين، وقد يتطور الأمر لأن تكون هناك شراكات استراتيجية واتفاقيات تعاون عسكري، وحتى اتفاقيات دفاع مشترك. ألم تنشر مراكز الدراسات الأميركية المرتبطة بوزارتي الدفاع والخارجية وبوكالات الأمن القومي والسي آي إيه تقاريراً عن امتلاك المملكة العربية السعودية أنظمة صاروخية بمساعدة صينية؟ ومن لا يتذكر تصريح ولي العهد السعودي قبل أعوامٍ الذي قال فيه أنّه من حق المملكة الحصول على الطاقة النووية إذا ما حصلت عليها إيران! أوليست باكستان على بعد خطوة من السعودية في هذا المضمار، أوليس من مصلحتها أيضاً خلق توازنٍ نووي بين السعودية وإيران!
ها هي دولة الإمارات تمتنع عن التصويت في مجلس الأمن على إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وهذا في تاريخ العرف السياسي الخليجي تطوّر بالغُ الدلالة. لقد أدركت حكومات الخليج أنّها ارتكبت خطأً بمحاصرة دولة قطر، فالعدوّ ليس في الدوحة، بل على الضفة الثانية من الخليج، ولهذا سارعت إلى التراجع عن هذه الخطوة الخاطئة وبدأت حواراً يقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل والأمن القومي المتقارب والمتطلبات والهواجس الواحدة إن كانت النيّة سليمة فعلاً.
لم تستطع الإدارة الأميركية ولا الدول الغربية تبديد الهواجس الإقليمية من الاتفاق النووي مع إيران، ليس فقط هواجس دول الخليج، بل إسرائيل قبلها، وحتى مصر أيضاً، فهذه الأخيرة ستجد نفسها محاصرة بمشاريع كبرى من كل الجهات أقربها في أثيوبيا وإسرائيل وأبعدها في إيران وتركيا. لذلك سيكون من المحتمل أن نشهد تصعيداً في مشاريع التسلح في المنطقة من جهة، كما سنشهد تحالفات مختلفة عما هي عليه الأمور الآن، ويبدو أنّ لقاء وزراء خارجيّة عدد من الدول العربية مع وزير الخارجية الإسرائيلي بحضور شكلي لنظيره الأميركي قبل أيامٍ في النقب هو أحد تجليات هذه الأحلاف الجديدة المحتملة. لقد شاهد العالم بأمّ عينه خلال الأزمة الأوكرانية، كيف يمكن أن يُستعمل التهديد بالسلاح النووي من قبل دولٍ محكومة بأنظمة استبدادية لردع المجتمع الدولي عن مساندة المعتدى عليه، فكيف سيكون الحال مع نظام دأب منذ لحظة تأسيسه على تصدير الخراب لدول الجوار إذا ما امتلك السلاح النووي؟
قد نشهد تصعيداً عسكرياً أيضاً بين إسرائيل وإيران، سواء أفشل الاتفاق النووي أم نجح، لأنّ فشله سيعني تصعيد إيران وتيرة التخصيب الذي قد يمكنها من تصنيع القنبلة النووية، ونجاحه قد يعني منعها مؤقتاً من ذلك فقط. فهل ستقبل إسرائيل وجود سلاح نووي في يد نظام بات حرسه الثوري على حدودها، وهل ستقبل أن يبقى برنامج الصواريخ المتوسطة وبعيدة المدى لإيران دون تحجيم ورقابة؟ جميع المؤشرات تقول عكس ذلك، ومن هنا كان لزيارة الرئيس الإسرائيلي قبل أيام إلى تركيا دلالاتٍ يصبّ بعضها في هذه الخانة.
قدَرُ المنطقة العربية أنّها وجدت على فالق جيوسياسي دائم التغيّر والتبدّل، وهذا يجعل من تضامن دولها رافعة ضرورية لمواجهة التحديات المشتركة، فهل تستطيع القيام بذلك؟