هذه الكلمة التي تحكم حيوات سكان الشرق الأوسط، والتي يخضع لأجلها عشرات الملايين من سكان الدول العربية لمبدأ "الانتظار" في كل شيء، في المأكل والملبس والعيش الكريم، كل شيء متوقف في شرق المتوسط، الإعمار، التنمية، التسويات السياسية.
في حين إن إدارة بايدن قررت بأن عهدها سيكون عهد المفاوضات وليس عهد القرارات الحاسمة، فلا قدرة لأي كيان عسكري أو سياسي في العالم أن يكون في مواجهة حاسمة مع أي طرف كان حتى لو كان ميليشيا صغيرة متنقلة في فيافي بادية سوريا والعراق، لأسباب تتعلق بالكساد الاقتصادي والأزمات المتلاحقة التي يتعرض لها العالم، لذلك طلبت الإدارة الديمقراطية من مبعوثيها أن ينقلوا رسائل لجميع الأطراف والحلفاء بالتهدئة وليس المواجهة، ابتداء من ميليشيا مجرمة مختفية بين الأحياء وصولاً إلى الصين، وعليه فقد انطلقت المفاوضات الماراثونية بين إيران والخماسي الدولي في محاولة لتطويق البرنامج النووي الإيراني ضمن ما عرف بإحياء اتفاق Jcpoa
توسعت هذه المفاوضات لتضم روسيا والصين جنباً إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتصبح واحدة من أكبر وأطول المفاوضات في تاريخ العالم، لتطويق أحد أخطر البرامج النووية في العالم، حيث يدرك جميع الأطراف ومن ضمنهم إيران، البلد صاحب البرنامج النووي المبهم بأن امتلاكها للسلاح النووي يعني تغييراً كبيراً في الخريطة الجيوسياسية للعالم، بما يشمل توازنات القوى في الشرق الأوسط ومصادر الطاقة منها إلى العالم، وتهديد التوازن الهش في آسيا الوسطى ومستقبل العلاقات مع الصين ومشاريعها التوسعية نحو الغرب، وكذلك أمن إسرائيل التي يتعهد الجميع وعلى رأسهم الصين وروسيا بضمان أمنها، وُقّع الاتفاق وأصبح ساري المفعول في 2016، بشروط أهمها تقييد ومراقبة البرنامج النووي الإيراني لعقد من الزمن قابل للتجديد، في مقابل الإفراج عن الأموال المحتجزة في الغرب، ورفع العقوبات الاقتصادية الهائلة عن طهران مما يعني أن إيران التي تعتبر أكبر داعم للإرهاب في الشرق الأوسط والعالم، حسب تصنيفات عشرات الدول الأوروبية والغربية، وستسطيع الحصول على مليارات من الدولارات لإعادة إنعاش ميليشياتها في جميع أنحاء البلاد غرب وشرق إيران.
كان قرار العودة إلى المفاوضات النووية هو أول قرار وقعه الرئيس بايدن فور نجاحه في الانتخابات الأميركية
هذا الأمر الذي أثار حفيظة الجمهوريين في الولايات المتحدة والعديد من خصوم إيران وعلى رأسهم العرب في السعودية ومصر ودول الخليج، مخافة تدخل إيران السافر في سيادة واستقلالية الدول العربية، وسط قلق كبير من قبل الخبراء النوويين وخبراء مراقبة البرامج النووية العسكرية بأن إيران تتلاعب عبر هذا القرار وأنها تستمر في بناء قدراتها النووية رغبة لوصولها لمرحلة الردع النووي دفاعاً عن نظامها ومكتسباتها الإقليمية، في تجربة مشابهة لتجربة كوريا الشمالية، التي باتت ترعب دول العالم ببرنامجها النووي والصاروخي، وسط فشل اقتصادي وإنساني واجتماعي هائل، تحاول إيران استنساخ تلك التجربة وسط إعجاب شديد من قبلها بتجربة بيونغ يانغ، استمر الأمر وسط تزايد قلق كبير من الجميع بين مؤيد للاتفاق ورافض له، حتى انسحب الرئيس دونالد ترامب منه في عام 2018، مفجراً قنبلة دولية كبيرة، أذهلت الجميع، ومكنت إيران من العودة لتخصيب اليورانيوم حتى وصلت لمستويات غير مسبوقة أبداً، مما جعل دول الجوار وعلى رأسها السعودية والإمارات تهدد بأن امتلاك إيران للقنبلة النووية يعني بأنها في اليوم التالي ستبدأ برنامجاً لامتلاك قنبلة نووية مقابلة من أجل تحقيق توازن في الردع وفي القوى، مرت السنوات وكان قرار العودة إلى المفاوضات النووية هو أول قرار وقعه الرئيس بايدن فور نجاحه في الانتخابات الأميركية، وعلى إيقاع تلك المفاوضات تعيش المنطقة بشعوبها وحكوماتها حالة مد وجزر مدمرة، فلا هي حالة حرب وليست كذلك وضعية مؤهلة للسلام، أنفاس المنطقة متوقفة في انتظار طاولات المفاوضات التي تمسك إيران بقرارات حكومات الدول التي تخضع لها.
الديمقراطيون الجدد وعلى رأسهم الرئيس السابق أوباما كانوا قد أعلنوها صراحة بأنهم غير مهتمين بالشرق الأوسط، وبأن على جميع الأطراف المعنية الجلوس على الطاولة للبدء في مفاوضات تقاسم المنطقة وإنهاء حالة الصراع، كانت تلك تصريحات أوباما لمجلة ذي أتلانتيك في 2016، رافعاً يده تماماً من ممارسات إيران في المنطقة وانتهاكاتها بالجملة لحقوق الإنسان وللقوانين الدولية في دول الشرق الأوسط، في سابقة رهيبة عرفت فيما بعد بـ (عقيدة أوباما) تجاه الشرق الأوسط، وعليه بدأت مفاوضات ثانوية غير علنية بين السعودية وإيران جرت في بغداد مطلع عام 2020، بغية استطلاع آفاق التفاهم بينهما حول المصالح المشتركة، لكن ليس للدول العربية التي تفاوض السعودية باسمها أي قوات على الأرض، وليس لها أي ميليشيات تزحف في عموم البلاد، بينما تمتلك إيران كثيرا لتتفاوض عليه، من بقاء ميليشياتها في البلاد، إلى برنامجها الصاروخي وبرامج الطائرات المسيرة، ودعم الحوثيين، والتدخل في حكومات العراق ولبنان، وقضم البلاد السورية وابتلاعها قطعة قطعة، مما يؤثر استراتيجياً على الأمن القومي العربي ككل.
إذاً نحن أمام طاولتي مفاوضات، واحدة دولية تفاوض إيران على برنامجها النووي، وتراقب تلك المفاوضات إسرائيل، ومفاوضات متعثرة غير معلنية وخجولة، بين إيران والسعودية، وبتمثيل متدن جداً، يجري فيها التفاوض على الأمن الإقليمي ككل، بما يشمل حياة الناس، وقوت يومها، لكن إيران وبحنكتها التفاوضية الكبيرة، تعمل على استخدام وسائل تفاوضية غير مباشرة على الدوام، فهي تجلس في بغداد إلى طاولة المفاوضات، وفي الوقت ذاته تطلب من الحوثيين إطلاق طائراتهم المسيرة نحو عمق السعودية، تفاوض الغرب في فيينا، وفي الوقت ذاته تمارس قيوداً على حركة النقل البحري في الخليج العربي، وبحر عمان، ثم تمنتع عن الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتفاوض على العودة إلى المفاوضات، بشروط ثانوية مثل الاستحواذ على مأرب، أو لجم أذربيجان، أو فتح باب المفاوضات مع طالبان..
هل تمتلك إيران كل هذا القوة فعلاً لتفاوض وتواجه كل هذه القوى العالمية، أم أنها مجرد واجهة لمن يدعهما في محاولة لإشغال الغرب عن مفاوضات أخرى أشد أهمية، مع الصين وروسيا؟
عادة ما تكون المفاوضات هي ذروة لأي حرب، يستكمل فيها الأطراف نتائج تلك الحرب، من نصر أو هزيمة، وهذه المفاوضات تأتي في هذا السياق، بعد عشرية ساخنة جداً في الشرق الأوسط، أو يكون الاستعصاء في المفاوضات باباً للعودة إلى الحروب، في حال تعنت أحد الأطراف عن تحقيق التنازلات التي تطلب منه، ويأتي هنا السؤال، هل تمتلك إيران كل هذه القوة فعلاً لتفاوض وتواجه كل هذه القوى العالمية، أم أنها مجرد واجهة لمن يدعهما في محاولة لإشغال الغرب عن مفاوضات أخرى أشد أهمية، مع الصين وروسيا مثلاً؟، أي أن مفاوضات الاتفاق النووي مع طهران ليست إلا مفاوضات ثانوية، تأتي كوسيلة ضغط لتحقيق نتائج أفضل على طاولة مفاوضات أشد أهمية تجري في مكان آخر بين الدول العظمى الحقيقية.
كل هذا يجري بينما الشعوب العربية تعيش وهم السيادة والاستقلال والنصر العسكري، في انتظار صفقة ما قريبة يباع فيها من يباع ويشترى فيها من يراد أن يشترى.