دأبت روسيا منذ عام 2017 على تقديم نفسها في الملف السوري كصانع وضامن، في آن واحد، للتسويات بين فصائل المعارضة والنظام، كجزء من تسوية سياسية شاملة تقول موسكو إنها تمتلكها وروجت لإمكانية الوصول إليها من خلال اتفاقات مناطقية ومجزوءة ذات طابع أمني وعسكري بين فصائل المعارضة والنظام، بوساطة وضمانات روسية تحت مسمى "المصالحات"، آخر نسخة منها مشروع لتسوية الأوضاع في درعا البلد يجري التفاوض عليه، وتتوارد معلومات متناقضة حول النتائج التي أفضى إليها، وإمكانية نجاحها.
ونتيجة تبنيها سياسة مركبة، استطاعت روسيا في السنوات الأخيرة إضعاف المعارضة السورية إلى أقصى درجة ممكنة عبر فصلها بين المسارين السياسي والعسكري، وتشتيتها عسكريا عبر فصل المناطق، واختراق تشكيلات المعارضة السياسية عبر إدخال ممثلين عن "المعارضة الوطنية" وتيارات تساند موسكو وعواصم إقليمية تتفق مع سياسات الكرملين. وفي المقابل، ومع الدعم المتواصل للنظام دبلوماسيا ولاحقا عسكريا واقتصاديا، لم يتوقف الساسة الروس على مختلف المستويات، والمقربين منهم، من توجيه انتقادات حادة للنظام طال بعضها بشار الأسد "الضعيف الفاسد"، وأكدوا في أكثر من مرة أنهم لا يدافعون عن الأسد بل عن الدولة السورية، في إشارة واضحة إلى أنهم مستعدون للتفاوض على رأس النظام.
مصالحات
وانطلق سيل (المصالحات) مع اتفاق الأطراف الثلاثة لمفاوضات أستانا في نسختها الرابعة (روسيا- تركيا- إيران) على إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد بين مقاتلي فصائل المعارضة وجيش النظام والمليشيات الداعمة له، و"تحسين الوضع الإنساني وخلق ظروف ملائمة لدفع التسوية السياسية للصراع" وفقاً لنص الاتفاق. والمناطق الأربعة هي: محافظة إدلب وأجزاء معينة من المحافظات المجاورة (اللاذقية، وحماة، وحلب). مناطق معينة من شمال محافظة حمص وجنوب حماة. الغوطة الشرقية. مناطق معيّنة من جنوب سوريا (محافظتا درعا والقنيطرة). وأكد الموقعون على الاتفاق أنه "إجراء مؤقت ستكون مدته مبدئيا ستة أشهر، وسيتم تمديده تلقائيا بالاستناد إلى توافق الضامنين".
وانطلق بعض المعارضين والمحللين السياسيين حينئذ من أن روسيا بصدد إبداء مرونة نوعاً ما في مواقفها الداعمة للنظام، وتنامى تقدير لدى موسكو بأنها بدأت تستنفد "بنك" أهدافها العسكرية، خاصة أن ذلك ترافق مع مواقف وصفت بالمتشددة من قبل إدارة الرئيس الأميركي السابق ترامب بخصوص الملف السوري، وتوجيه ضربة واحدة على مطار الشعيرات في أبريل/ نيسان 2017، نجحت في إرباك مركز صنع القرار في روسيا لفترة زمنية قصيرة، لكن أثرها تلاشى لاحقا.
وكشفت الأحداث لاحقا أن "المرونة المزعومة" لم تكن سوى محاولة كسب مزيد من الوقت، حتى يتسنى لروسيا ترتيب أوراقها مرة أخرى في محاولة لتحقيق مكاسب استراتيجية، من تدخلها العسكري في سوريا دعماً لنظام الأسد ومنعاً لانهياره، وتتلخص تلك المكاسب في الحفاظ على وجودها العسكري ونفوذها السياسي والاقتصادي في سوريا، كركيزة لحضور روسي قوي في منطقة الشرق الأوسط.
ومع تراجع حدة التهديدات الأميركية، وصعود موجة اليمين في أوروبا بعد موجات اللاجئين، أصبح هناك قناعة لدى الكرملين بأنه بات ممسكا بالملف السوري بما يؤهله لتثبيت تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية، ضمن الرؤية الروسية، في صفقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ودور مكمل للأطراف الإقليمية الفاعلة في الملف السوري، يكون فيها نصيب الأسد لروسيا مع جوائز ترضية للأطراف الأخرى.
وبعد فشل هذا المسعى عادت روسيا إلى استخدام عصا القوة العسكرية لتسويق "المصالحات"، أو الأدق فرضها بعد أن نجحت في تفتيت القوى السياسية وإنهاك الفصائل المسلحة المعارضة للنظام، وساهمت بشكل مباشر في تدمير مقومات الحياة في المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام، في ظل تراجع المواقف الدولية والعربية. ليبدأ بعدها تنفيذ مخطط القضم التدريجي لمناطق (خفض التصعيد) وللمناطق التي وقَّعت فصائلها على (مصالحات) بوساطة وضمانات روسية، ثبت أنها لا تعدو كونها خطوة في فراغ تمهد لخطوتين في صالح النظام.
وفي الشهر الأخير مع اشتعال الأوضاع في درعا، بدا غريبا أن روسيا ما زالت قادرة على تسويق المزيد من تسوياتها المجزوءة تحت مسمى مصالحة، هي في حقيقة الأمر إعادة إخراج لشروط النظام، تم اجترارها في كل نسخ المصالحات السابقة، في ريف دمشق وحمص وإدلب ودرعا، بتسليم الأسلحة وإعادة سيطرة النظام وترحيل المعارضين للتسويات بـ"باصات النقل العام الخضراء".
ونجحت روسيا جزئيا في الترويج على أنها وسيط في المفاوضات الجارية لتسوية الأوضاع في درعا البلد، رغم أنه من الأولى أن تلتزم بالضمانات التي قدمتها للمعارضة السورية بمقتضى اتفاق المصالحة المبرم في صيف 2018 بعد حملة النظام والروس الدموية على المنطقة الجنوبية ما يشير بوضوح إلى أن موسكو مستمرة في اللعب لصالح النظام، رغم هشاشة "المصالحات" المبرمة بوساطة وضمانات روسية، واحتمال تفجر الأوضاع في العديد من المناطق التي أعاد النظام سيطرته عليها باتفاقات تسوية جزئية مع فصائل المعارضة.
الضغط على النظام
ورغم أن تجربة السنوات العشر الأخيرة أثبتت أن الروس حافظوا على دعم النظام بكل الوسائل الممكنة، فإنهم واصلوا الضغط عليه، وتوظيف جميع الأحداث من أجل زيادة اعتماد الأسد على موسكو، وعدم قدرته على التصرف من دونها أو بعيدا عنها، وتضييق هامش المناورة أمامه للعب على تناقضات المشروعين الروسي والإيراني في سوريا، وكذلك منعه من استخدام إسرائيل كبوابة لـ " تلميع صورته" والتقرب من الغرب وهو ما بدا واضحا في إصرار موسكو على الإعلان عن صفقات تسليم رفات جندي إسرائيلي لنتنياهو أو ساعة كوهين أو إعادة دبابة اغتنمها الجيش السوري في أثناء اجتياح إسرائيل وعدوانها على لبنان في 1982.
ومكنت سياسة الضغوط على النظام روسيا من الهيمنة عمليا على قراره، وتواصل استغلال ورقة "شرعية" النظام، وضعف المعارضة، لتعزز دورها كطرف لا يمكن منافسته أو الاستغناء عنه في الملف السوري بانتظار الوصول إلى صفقة مع الولايات المتحدة بالدرجة الاولى لا يستثنى منها مصير الأسد، وفي ذات الوقت فإنها لا تمانع في مواصلة سياسة "القضم التدريجي" للمناطق الخارجة عن السيطرة في حال أمنت غضب الأطراف الإقليمية والدولية، وعدم الدخول في مواجهة شاملة.
بالعودة إلى أحداث درعا، فإن فشل المفاوضات سوف يؤثر سلبا على دور روسيا كوسيط في نظر النظام والمعارضة السورية والمجتمع الدولي، ولكن الفشل لا يعني نهاية دورها، فالأحداث بينت أنها تواصل اجتراح تكتيكات معقدة لخدمة استراتيجيتها للهيمنة على القرار السوري، فمن ناحية تضيق على المعارضة وترغب في عودة كامل الأراضي لسلطة النظام كنهج ثابت، وفي الوقت ذاته لم تشارك في الحملة العسكرية كما جرى في 2018، وربما ذهبت أبعد من ذلك في محاولة "تلقين" النظام درسا بناء على اشتراك الفيلق الثامن التابع لها بقيادة أحمد العودة في عمليات "الفزعة" نهاية الشهر الماضي لفك الحصار عن درعا البلد ووقف حملة النظام العسكرية عليها وعلى أحياء طريق السد والمخيم. ويبدو أنه بغض النظر عن نتائج المفاوضات في درعا، وفي ظل غياب موقف دولي رادع فإن روسيا ستبقى في موقع الخصم والحكم بالنسبة للمعارضة، وحليفاً غير موثوق للنظام لكنها تواصل العمل ضمن مبدأ "خطوة في فراغ وخطوتان لصالح النظام"، ضمن سياق عام تسعى بنهايته للإمساك بالملف السوري كورقة للمقايضة في ملفات كثيرة عالقة مع واشنطن والغرب، ومن الواضح أن تشرذم المعارضة وتوزع مرجعياتها، ورغبة الأسد بالمحافظة على كرسي الرئاسة بأي ثمن يمنح روسيا إمكانية الوصول إلى ما تريد.