تندرج المقابلة الأخيرة لرأس النظام السوري بشار الأسد مع محطة سكاي نيوز ضمن المحاولات الإماراتية الحثيثة لتبييض صورة النظام السوري، بعد أن كانت دولة الإمارات هي السباقة لإعادة العلاقات الدبلوماسية معه، ولمحاولة إعادة تأهيله أمام المجتمع الدولي والعربي (بطبيعة الحال)، فعلى ما يبدو أن حضور بشار الأسد لمؤتمر القمة العربية الأخير في جدة لم يساعد على عودته، ولم يجعل جهود دولة الإمارات في هذا الشأن مثمرة، خصوصا بعد أن تراجعت المملكة العربية السعودية عن عزمها إعادة العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد (مع التقارير عن الخلاف الحاد بين المملكة ودولة الإمارات حول المحورية العربية)، وبالتالي سوف يزداد الشرخ العربي حول عودة النظام السوري الرسمية إلى الجامعة العربية، ما سيضيع مساعي وجهود دولة الإمارات في هذا الشأن، وبالتالي قد يضعف ذلك موقفها في خلافها مع المملكة العربية السعودية.
الإرهاب هو السبب في كل ما حصل ويحصل في سوريا، الإرهاب هي المفردة التي تعتمدها كل أنظمة الاستبداد في حروبها الداخلية والخارجية. وهي المفردة التي برر بها الأسد كل جرائمه بحق سوريا والسوريين
لكن ما حدث في المقابلة وما قاله (الرئيس بشار) كما يسمي هو نفسه (ذكر في المقابلة معمر القذافي وصدام حسين بأسمائهم المجردة بينما كانت كلمة الرئيس تسبق اسمه دائما حين يتحدث عن نفسه) بدا كافيا لتنهي دولة الإمارات سعيها في هذا الخصوص. ذلك أن بشار الأسد لم يتفوه بأي كلمة جديدة، ولم يقدم أي حل لأية مشكلة من المشكلات التي تؤرق المجتمع الدولي، أو لأي ملف من الملفات الأساسية في القضية السورية حاليا. خصوصا قضيتي المهجرين والمخدرات. وهما القضيتان اللتان عجلتا في محاولات إعادة التطبيع معه من قبل العرب ودول الجوار.
الإرهاب هو السبب في كل ما حصل ويحصل في سوريا، الإرهاب هي المفردة التي تعتمدها كل أنظمة الاستبداد في حروبها الداخلية والخارجية. وهي المفردة التي برر بها الأسد كل جرائمه بحق سوريا والسوريين، فبسبب الإرهاب تدمرت سوريا وتشرد شعبها كما قال لسكاي نيوز، أما مسؤوليته هو عن هذا الخراب الممتد فهي غير واردة، هو بذلك يؤكد مقولة قالها الأسد الأب ذات يوم (نحن لسنا هواة قتل وتدمير نحن ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير) تلك المقولة التي بررت وتبرر كل جرائم نظام الأسد في عهدي الأب والابن (لنأمل أن لا يكون هناك عهد الحفيد الأسد!).
بسبب الإرهاب إذاً تدمرت سوريا وتشرد شعبها وتهجر، وسكن الملايين منه في المخيمات، وبسببه تردت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في سوريا ما منع ملايين المهجرين من العودة إليها. لكم أن تتخيلوا الآتي: يعيش ملايين السوريين في مخيمات ليس فيها أدنى شرط من شروط الإنسانية ومع ذلك يرفضون العودة إلى سوريا بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية كما يقول "الرئيس بشار"! ربما لو كان محاوره جريئا ومحايدا لقال له إن حياة هؤلاء داخل سوريا مع كل أزماتها يفترض أنها أكثر رحمة وكرامة مما يعيشونه في المخيمات، لماذا إذاً لا يعودون؟ لم يسأل المحاور بشار الأسد هذا السؤال، ذلك أن إجابته واضحة: يفضل اللاجئون حياة الذل على العيش في ظل نظام الأسد، ذلك أن سقف ما يعيشونه في مخيماتهم هو ما هم فيه الآن، أما في سوريا فلا يوجد أي توقع لمصائرهم، فقد تكون التصفية أو الاعتقال أو الإخفاء في انتظارهم، يعرف الجميع ذلك بمن فيهم "الرئيس بشار" ذاته حتى وهو ينكر قيام سلطاته الأمنية باعتقال كثير من العائدين.
أما بما يخص المخدرات، فبحسب زعيم الكبتاغون تتحمل الدول التي دعمت الإرهاب أسباب وجودها وتجارتها "فالدولة الضعيفة" لا يمكنها مكافحة المخدرات. لم يعط أي وعد بتوقيف هذه التجارة ولا بمحاولة الحد من تهريب الكبتاغون ولا بمحاولة مكافحة صناعته، هو يقرّ أن دولته ضعيفة وبالتالي قد تستمر هذه التجارة حتى تقوى الدولة؛ وهو بهذا يعد دول الجوار والدول العربية بالمزيد طالما لا يدعمون نظامه بما يرضيه.
تحدث بشار الأسد عن كثير من الملفات الملحة في سوريا كما لو أنه يتحدث عن بلد لا علاقة له به، هو لا يستطيع أن يفعل شيئا بشأن الأزمة الاقتصادية والمعيشية ولا يستطيع أن يفعل شيئا بشأن الإعمار ولا بشأن المهجرين ولا بشأن الفساد ولا بشأن المخدرات، هو ليس قادرا على فعل أي شيء يخص البلد سوى "مواصلة المعارك" كما قال، ضد من يسميهم إرهابيين. منظرا عن مفهوم الخوف، كعادته في التنظير، ومتباهيا ببطولته في البقاء بوصفه "الرئيس بشار" ولم يهرب من المعركة، أما ملايين الضحايا ممن فقدتهم سوريا بسبب بطولته تلك فهم لا شيء، هم مجرد أرقام قد تجدون فيها بعض "الحالات الإنسانية كالعائلات التي فقدت ولدا أو أكثر وأرسلت من تبقى للموت في سبيل الوطن". يتفاخر بشار الأسد بالموتى والقتلى من ضحاياه، يتفاخر بأحزان آبائهم وعجزهم عن رد مصائر أبنائهم، يتفاخر بأنه، وكما يقول المصريون (خربها وقعد على تلتها)، مستعدا لفعل ذلك ثانية لو الزمن عاد بأحداثه ذاتها. إذ ليس لديه ذرة ندم واحدة على ما فعل، ولا يرى نفسه مخطئا أصلا، بل العكس هو ببساطة يرى نفسه بطلا وفعل ما يجب عليه كرئيس (محبوب من شعبه) كما قال وتبجح معتبرا أن من طالبوا برحيله لا يتجاوزون المئة ألف. (لماذا لم يسأله المحاور لماذا اعتقلت السلطات السورية مئات الآلاف من السوريين معظمهم مختفون حاليا؟).
مسألتان مهمتان قالهما بشار الأسد في لقائه الأخير مع سكاي نيوز، الأولى هي عن الدعم الإيراني والروسي له، معتبرا أنهما صديقان وحليفان حقيقيان، وهو كان محقا في هذا، فلولا هاتان الدولتان لسقط نظامه منذ زمن طويل، وهنا لا يمكننا سوى أن نتذكر (أصدقاء الشعب السوري) والخذلانات المتتالية التي أصيب بها هذا الشعب منهم؛ طبعا دون أن ننسى الدور السيئ والسلبي لهيئات المعارضة ومؤسساتها التي كانت مثل الخناجر في جسد الثورة السورية. وعلى ذكر المعارضة هل انتبهتم إلى أن بشار الأسد يعتبر كل المعارضات مصنعة؟ حتى تلك التي تحت سقف الوطن "المصنعة داخليا"، وهذا ليس قولا مرسلا بل هو تَبَنٍّ واقتناعٌ كليٌّ وتامٌّ، ذلك أنه لا يمكنه استيعاب أن يكون هناك من يعارضه إلا لو تم هذا بفعل فاعل؛ هل ثمة هوس بالذات وبالسلطة أكثر من ذلك؟!
لم ينف بشار الأسد فكرة توريث ابنه، هو فقط تركها لحزب البعث كما حدث معه. هكذا ستجد أجيال سورية جديدة قادمة أنها لن تعرف حاكما للجملوكية السورية خارج عائلة الأسد، هل من مصير أسوأ من هذا المصير لبلد مثل سوريا؟!
المسألة الثانية، وهي الأهم في الحوار كله، هي رفضه الكلام عن توريثه، هو مؤمن أن والده لم يكن ينوي ذلك بل كان ينوي توريث شقيقه الأكبر باسل لولا رحيله المفاجئ. وفي الأغلب أن بشار الأسد لم يستطع يوما تخطي هذا؛ وغالبا فإن كل ما فعله في سوريا هو محاولة لتجاوز هذه العقدة الكبيرة في حياته عبر إظهار أنه يصلح لأن يكون ديكتاتورا أكثر من أخيه وأبيه معا. لكن هل هذا يعني أنه لا يفكر بتوريث ابنه حافظ بشار حافظ الأسد؟ يقول (الرئيس بشار) إن والده لم يتحدث معه بهذا الشأن سابقا، كذلك هو لا يتحدث مع ابنه حافظ بهذا الشأن مطلقا؛ مسار الاثنين واحد كما يتضح من الكلام، قد يرى حزب البعث بعد عدة سنوات أن سوريا تحتاج لـ" أمل" جديد كما ارتأى نفس الحزب أن أمل سوريا بعد موت حافظ الأسد هو بشار، وبما أن سوريا لم تنجب في تاريخها من هو أصلح من هذه العائلة لحكمها فلِمَ لا يكون حافظ بشار الأسد هو أملها الجديد؟! لم ينفِ بشار الأسد فكرة توريث ابنه، هو فقط تركها لحزب البعث كما حدث معه. هكذا ستجد أجيال سورية جديدة قادمة أنها لن تعرف حاكما للجملوكية السورية خارج عائلة الأسد، هل من مصير أسوأ من هذا المصير لبلد مثل سوريا؟!
من البديهي أن محاور بشار الأسد كان بإمكانه طرح أسئلة أكثر إحراجا وأكثر قدرة على استفزازه وإخراج كل ما يفكر به، لو كان المحاور حرا طبعا أو لو كان القصد من المقابلة هو إحراج بشار الأسد، لكن، كما أسلفنا، فإن القصد غالبا هو محاولة جديدة لتبييض صفحة هذا النظام أمام العالم، لمحاولة جعله يعطي وعودا ما تبرر محاولات إعادة تأهيله، لكن لا يبدو أن هذه المحاولات قد آتت ثمارها، ذلك أن (الرئيس بشار) ظلَّ، كعادته، متعجرفا واستعلائيا ومتباهيا بدمويته، ويتصرف تماما كما لو أنه ورث مزرعة أبيه وله حق التصرف بها كما يشاء.