عام ٢٠١٣ وفي أثناء إقامتنا المؤقتة في القاهرة، تعرض جار لنا سوري لوعكة صحية، نقلناه إلى المشفى القريب، وكانت الأعراض كلها تشير إلى أزمة قلبية، وقد هرع طبيب مصري شاب لدى دخولنا، واستنفر الممرضون الذين حوله، وأدخلنا جارنا غرفة العناية المشددة، ومرت الليلة على خير، وتجاوز جارنا أزمته، وكان عليه أن يراجع في اليوم التالي طبيباً مختصاً للإشراف على حالته، أخبرني الجار بأن أبحث له عن طبيب
سوري لأنه لا يثق إلا بطبيب سوري لعلاجه، وهذا ما حدث فعلاً، وجدنا طبيباً سورياً شاباً، فتح عيادة في منطقة ٦ أكتوبر، وبدأ العلاج.
تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي صفحات للسوريين في مختلف الدول الأوروبية، ويتكرر فيها دائماً هذا الطلب: هل هناك طبيب سوري في مدينة كذا؟ حتى في الدول الأوروبية التي يكون فيها مستوى الرعاية الصحية مرتفعاً، ولا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال مع مستوى الرعاية الصحية في سوريا، لكن السوريين دائماً يبحثون عن أطباء سوريين.. طبعاً بالإضافة إلى محال المأكولات السورية، التي بدأت تنتشر في مختلف المدن الأوروبية، والتي تبيع بضائعها للسوريين فقط، الذين ومهما حاولوا الاندماج في المجتمعات الجديدة التي وصلوا إليها، إلا أن فكرة أن يعالجهم طبيب أجنبي تكاد تكون نادرة.
السوريون، رغم كل ما حدث، لم يفقدوا الثقة بأنفسهم، أو بمعنى أصح بمواطنيهم، وبثقافتهم، وعاداتهم الاجتماعية..
وبمقدار ما يبدو هذا الكلام عادياً، وقد لا يتوقف عنده كثيرون، إلا أنه يحمل دلالات يمكن النظر إليها على أنها مؤشر إيجابي، فالسوريون، رغم كل ما حدث، لم يفقدوا الثقة بأنفسهم، أو بمعنى أصح بمواطنيهم، وبثقافتهم، وعاداتهم الاجتماعية..
وقد يحدث أن نسمع، أو نقرأ قصصاً عن خذلان السوريين بعضهم بعضاً، وخاصة حين يتعلق الأمر بالموقف السياسي، لكن ما خلا ذلك، سنرى دائماً ذلك التفاخر السوري بأي إنجاز يحققه أحدهم، حتى وإن كان نجاحاً في شهادة الثانوية العامة، تفاخر قد يصل أحياناً إلى حد المبالغة البغيضة، وسوف تتكرر عبارة “السوريون حيثما ذهبوا مبدعون”، أو “السوريون أذكياء بالفطرة”، كما قالت إحدى ناشطات التواصل الاجتماعي.
وكي لا نرفع سقف آمالنا كثيراً، فسوف نجد تعليقات مثل، المحل الفلاني بدأ جيداً، وبضاعته ممتازة، لكنه بعد ذلك فقد ثقة الناس به، وصار همه الوحيد الربح، ورفع الأسعار بسبب أو بلا سبب، أو أن نقرأ تعليقاً يفيد بأن المريض اكتشف أن الطبيب الفلاني، والذي كان ممتازاً، هو "شبيح" مؤيد للنظام، ولا يمكن هنا فصل الطب عن السياسة، إذ لا يمكن أن يكون العلاج مفيداً، ما لم يكن المريض واثقاً ثقة تامة بالطبيب.
يحكي أن المفكر الراحل صادق جلال العظم، سئل عن تصوره للحل السوري فقال: "سوف نصل إلى حل، عندما يجتمع خمسة سوريين على رأي واحد".
نقول دائماً إن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، لكن الواقع عكس ذلك، فقد عملت خمسون سنة من الاستبداد والديكتاتورية عملها فينا، وجعلتنا شعوباً وقبائل، مختلفين في كل شيء، وعلى كل شيء، وإن كنا شهدنا في سنوات الثورة الأولى حالة من اللقاء بين أبناء الثورة، وظهرت لدينا سوريا جديدة، سوريا لم نكن نعرفها من قبل، تنسيق بين التجمعات الثورية في مختلف المناطق والمدن، وعمل "وطني" خالص لأجل الوصول إلى دولة نحلم بها جميعاً.. إلا أن ذلك لم يستمر، للأسف، سوى لبعض الوقت، قبل أن نشهد حالة الارتداد إلى ما علمنا إياه النظام، تقوقع مناطقي، بل وتبادل اتهامات وتخوين، حتى في تفاصيل بسيطة وغير مؤثرة، مثل ذكرى انطلاقة الثورة، والذي كان وما زال يشكل نقطة عداء بين السوريين، ووصل الأمر بالبعض إلى أن يتهم الآخرين بسرقة الثورة، هكذا حرفياً، يكتب أحدهم مقالة يقول فيها "إن أولئك الذين يعتبرون الثورة بدأت يوم كذا، ليسوا سوى خونة، تابعين للنظام" وعلى العموم الثورة لم تنتصر، ولم تصل إلى غايتها بعد، والاحتفال بيوم انطلاقتها لن يغير في مسار الأحداث شيئاً..
المريض السوري، وهو هنا دولة تفككت، ولم يعد تجميعها ممكناً، ما زالت تبحث عمن يعالجها، لكن ذلك المعالج لن يكون سورياً بطبيعة الحال
وكما حدث ويحدث في محال بيع المأكولات، والتي تفقد ثقة الناس بها بعد أشهر من افتتاحها، كذلك حدث مع مؤسسات المعارضة السورية، بدءاً من المجلس الوطني، وصولاً إلى الائتلاف، وغيره من الكيانات، فكلها بدأت بشكل جيد، ونالت حصتها من التأييد الشعبي والدولي، لكنها بعد ذلك، صارت تسعى إلى "الربح" وإن بمعنى مجازي.. كيلا يؤخذ علينا أننا نتهم من دون أدلة.
ولهذا كله، فإن المريض السوري، وهو هنا دولة تفككت، ولم يعد تجميعها ممكناً، ما زالت تبحث عمن يعالجها، لكن ذلك المعالج لن يكون سورياً بطبيعة الحال، هذه هي القناعة الراسخة لدينا جميعاً، نحن نبحث عن علاج خارجي ينهي هذا المرض العضال، ويستأصل السرطان الذي التهم الجسد السوري، فلم يعد لدينا ثقة بأنفسنا.. فهل سيكون طبيبنا روسياً أم أميركياً أم تركياً أم إيرانياً؟