المدرسة في سوريا.. بين النوستالجيا ومحاولة نفض ذكراها من الذاكرة الشخصية

2024.09.24 | 06:54 دمشق

آخر تحديث: 24.09.2024 | 06:54 دمشق

2555555554
+A
حجم الخط
-A

في أيلول، تعاودني ذكريات مدرستي في سوريا، تزامناً مع بداية الفصل الدراسي لعام جديد. وإن كنت قد مررت بمدارس مختلفة في الغربة مثل الغالبية العظمى من أبناء جيل ما بعد الألفين، إلا أن مشهد دخول الطلبة إلى مدارسهم لا يرجع بي سوى إلى مدرستي هناك، في وطني الصغير في ريف دمشق.

وكأن عطباً أصاب ذاكرتي العاطفية، فتوقفت عن الاحتفاظ بعاطفتها تجاه الأشياء منذ رأيت كراجات العباسيين تبتعد وتصبح خلفي أكثر فأكثر، وتصير هناك، حيث لن أعود لانتظار حافلة تنقلني إلى التل أو إلى وسط دمشق مرة أخرى.

يمس الحنين قلبي في بداية أيلول كل عام وأنا أعبر من أمام باب مدرسة فُتِح للتو، يغيب صوت الطلبة الذين أشاهدهم ويعود لي صدى الانكسار الأول حين عرفت أنني سأخسر مدرستي ودمشق معاً في آن واحد، وسأذهب نحو المدن الغريبة الكبيرة التي يتحدث عنها من غادروا البلد قبلنا.

أسترجع صورة المدرسة التي أفتقدها، الغيمة الآتية على مهل بعد صيف طويل، مشاريع الصداقة التي نستكملها من جديد في أحد صباحات أيلول، الطابور الصباحي الذي ننشد فيه "حماة الديار" و"موطني"، حين كنا ننشد عن أوطان مسروقة، ونؤمن رغم ذلك أنها موطننا وأن حماة الديار سيحموها بالفعل.

نكتب بطباشيرنا الملونة خلال الدوام، ثم نرسم بما تبقى منها شمساً وقمراً وعصفوراً ومنزلاً بمدخنة على زاوية الخزان فوق سطح البيت أو على اللوح المدرسي.

سندويش الزعتر والـ 25 ليرة سورية التي نشعر أنه بإمكانها شراء البوفيه كاملاً، أحاديثنا التي لا تكتفي بوقت "الفرصة"، فنكتبها على قصاصات من دفاترنا ونمررها من مقعد لآخر، ثم نعود لنستكملها عبر الهاتف الأرضي. رائحة المساء في طريق العودة من دوام ما بعد الظهر، جنوننا الطفولي حين كانت صديقتي توصلني إلى منزلي ثم أعود معها لأوصلها إلى منزلها في دوامة لا تنتهي إلا مع غياب ضوء السماء ومجيء الليل. وكان الليل موحشاً معتماً حين بدأ النظام السوري بقطع الكهرباء عن الشام لساعات طويلة.

للمدرسة في سوريا وجهان: وجهٌ دافئ وآخر انعكست فيه ملامح الاستبداد. حمل بعض المعلمين والمعلمات وجهها الدافئ مع بقية التفاصيل التي انتمينا إليها، بينما حمل آخرون وجه الاستبداد الذي عمل طويلاً على تجهيلنا وقهرنا بشكل مباشر أو غير مباشر.

يعاودني مشهد يجمعني بصديقتي في أمسية ماطرة بعد المدرسة، حين قلت لها إن وائل كفوري هو من غنى أغنية "بعدك زعلانة مني"، لكنها رفضت مؤكدة أن فضل شاكر هو من غناها. وافترقنا يومها من دون حسم الجواب، فلم يكن من السهل على أبناء وبنات دمشق في تلك الليلة الممطرة المعتمة أن يستعنّ بالإنترنت لقطع الشك باليقين.

أسترجع صورة الشمعة والكتب أو "لدّات الإضاءة" والكتب في زمن الثورة، صوت صديقاتنا الثلاث اللواتي تجرأن على هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام". كل تلك التفاصيل العذبة كانت ستغادرنا حتماً مع العمر ومع انتهاء مرحلتنا الدراسية، لكنها لم تغادرنا ببطء وبطريقة طبيعية، بل غابت فجأة وبشكل صادم، وكان ذلك كافياً لأن نلمس ذكراها بحذر وخوف طوال العمر، كأننا نلمس جرحاً قديماً غائراً لم يستطع أحد مداواته، فنخشى أن ننكأه مرة أخرى.

255555555554
مدرسة عمر بن عبد العزيز في دمشق

أستعيد ما قاله واسيني الأعرج في روايته "سيدة المقام": "تحيا الأشياء الرقيقة التي لا تموت، سحبوها من القلب مثلما يسحبون إبرة انغرست في العظم". وهكذا سحبوا منا كل الأشياء: المدرسة، والبيت، والوطن.

لكن للمدرسة في سوريا وجهان: وجهٌ دافئ وآخر انعكست فيه ملامح الاستبداد. حمل بعض المعلمين والمعلمات وجهها الدافئ مع بقية التفاصيل التي انتمينا إليها، بينما حمل آخرون وجه الاستبداد الذي عمل طويلاً على تجهيلنا وقهرنا بشكل مباشر أو غير مباشر. ولا أجد هنا تعبيراً أدق مما كتبته ديمة ونوس في روايتها "الخائفون": "نعم، المدرسة كانت ذلك المكان الذي يختبر فيه الطلاب أنواع الحياة في بلد كسورية الأسد. المكان الذي يُدَجَّنون به ويتعلمون تلقي الإهانة بصمت، ويُدَرَّبون على الطاعة وعلى احترام القوي والمتسلّط".

أذكر أول خلاف كبير لي مع إحدى المعلّمات، حين استأت من استهزائها بإحدى الطالبات بسبب عدم التزامها بكل تفاصيل اللباس المدرسي، وكان تفصيلاً بسيطاً في "ربطة" الحذاء. فضّلت زميلتي وقتها أن يكون لون الربطة مختلفاً عن الأبيض والأسود، ولا أذكر الآن بالضبط اللون الذي اختارته. أثار ذلك غضب المعلمة التي تفضل لعب دور إداري لا تمتلكه بدلاً من دورها التعليمي. وكان دورها الإداري هذا يحتاج إلى تأكيده والإشارة إليه صراخاً صباحياً وتدخلاً دائماً في عملية "ضبطنا".

لكن الإساءة يومها تجاوزت قدرتي على السكوت، حين سمعتها تقول: "قلنا لون الربطة أسود أو أبيض… ما بدي شوف هالألوان مرة تانية وإلا بدي علقك عالمروحة… بس يمكن إذا علقتك ما توصل رجليكِ للأرض". لم تكن وحدها في القاعة ذاك اليوم، رافقتها معلمتان، إحداهما مقربة مني، لم تعلّق على ما قيل، بل أشارت لي بضرورة السكوت، والأخرى ضحكت.

وحين اعترضتُ على الموقف، وكان ذلك مفاجئًا بالنسبة لهم، أخبروني أنني لست محامي دفاع، وأن عليّ التزام الأدب، وأن زميلتي تمتلك لساناً تستطيع التكلم من خلاله. لم تنطق شيئاً ولم تعترض، وكان هذا محرجاً بالنسبة لي، لكني عرفت بعد مرور السنوات وبعدما قرأته في رواية ونّوس، أنها في ذاك الموقف كانت طالبة في سوريا الأسد، تتعلم تلقي الإهانة بصمت.

لكنني لم أخجل هذه المرة، فلتتمزق تلك المناهج التي رسمتها شُعَب حزب البعث، حيث قدّسنا "القائد الخالد" وابنه "الرفيق والرئيس والأمين العام"، ولم نعرف سواهما أحداً من رجال ونساء التاريخ السوري.

لم ينتهِ الموقف هنا بالطبع، لكنه رغم ذلك كان يبدو بسيطاً لو أردت مقارنته بالعنف العام الذي رأيته في المدارس التي ارتدتها أو سمعت عنه. كان لدى المعلمين والمعلمات المعنِّفين/ات أساليب مختلفة "للتأديب": ضرب اليد بالعصا تزامناً مع إجبار الطلبة على عدّ الضربات، العقاب برفع إحدى القدمين وإدارة الوجه للحائط ساعة كاملة وأحياناً أكثر، ضرب الوجه، شدّ الشعر عند الفتيات والتلويح به يميناً ويساراً، مشية البطة، وطرقاً أخرى مختلفة تهين الجسد والإنسان في داخلنا بالتدريج. اليوم أتساءل: هل استمدوا تلك الأساليب من المعتقلات السورية أم العكس؟ فقد عرفنا بعد الثورة أن ثمة تشابهاً بين المكانين حتى في العمران.

يقول الكاتب دلير يوسف في مقالٍ بعنوان، "سجون مدرسية في سوريا الأسد"، إن المدارس في سوريا بُنيت بشكل ضخم وبهيئات بشعة وبلونٍ ترابي من الخارج، يحيط بساحتها الداخلية سور خارجي، مثل السجون، وترتبط المدرسة بالعالم الخارجي عن طريق بوابة حديدية كبيرة، تُفتح مرة واحدة في الصباح الباكر لاستقبال الطلبة، ومرة أخرى عند انتهاء الدوام المدرسي. ثمة تشابه بالفعل.

أعتقد أن الكاتبة رانيا البيطار كانت محقة جداً حين أطلقت اسم "أشواك ناعمة" على المسلسل السوري الذي ينقل بجزء كبير منه حياة الطالبات في المدرسة، فهي وإن قصدت شيئاً آخر، عبّرت عن صورة المدرسة في روحنا: شوكٌ ناعم، كان لنعومته دوراً في أن ننسى وجوده أحياناً، لنشعر بالانتماء والحنين فيما بعد.

في آخر سنة دراسية أتممتها في سوريا قبل ثمانية أعوام، قمت مع صديقاتي بتمزيق أوراق الدفاتر المدرسية أمام المدرسة بعد الامتحان الأخير. كنا نمزقها ونحتفظ بها لدقائق، ثم نعد 1، 2، 3 ضاحكين، ونرميها نحو السماء ليتناثروا في الشارع كاملاً. سجلنا تلك اللحظة في مقطع فيديو. لا أنكر أنني شعرت بالخجل بعد مشاهدته، تخيلت إحدى معلماتي أو الإداريات اللواتي أحبهن وأحترمهن يشاهدننا في تلك اللحظة، وشعرت بخذلان شديد لتمزيق خلاصة جهدهم السنوي، ولم أفتحه مرة أخرى إلا بعد سنوات من سفري، بدافع التوق لاستعادة تلك اللحظة مع صديقاتي، أمام مدرستي التي أحببتها أكثر من أي مكان في تلك المدينة. لكنني لم أخجل هذه المرة، فلتتمزق تلك المناهج التي رسمتها شُعَب حزب البعث، حيث قدّسنا "القائد الخالد" وابنه "الرفيق والرئيس والأمين العام"، ولم نعرف سواهما أحداً من رجال ونساء التاريخ السوري. فلتتمزق تلك المناهج التي أطلقت على الانقلاب العسكري اسم "الحركة التصحيحية" وسردت تاريخاً مضللاً علينا أن نحفظه عن ظهر قلب. مناهجنا التي احتوت على قشور اللغة والعلم والدين، وأخبرتنا ونحن جالسون فوق مقاعد خشبية مهترئة بجوار مدفأة المازوت الفارغة وقبالة لوح الطباشير، أن سوريا تتمتع بتقدم علمي كبير.