يومها، قبل خمسين عاماً بالتمام، في الخامس من تموز/يوليو عام 1973، كان نهر الفرات لم يزل على طبيعته. طبيعيّاً حرّاً طليقاً على سجيته وفطرته منذ كان، لم تتدخل به بعد أيادي خلفاء الله في الأرض، الذين أوصلهم تطورهم العقلي، وقدراتهم على الخلق والتغيير في الأرض والكوكب وفضاءاته، إلى درجات عالية من تغيير الطبائع والطبيعة. كانوا قد أعدّوا العدة لذلك، وفي أكثر من مكان على طول مجراه الهادر لحوالي (2000 كم) في ثلاث دول (تركيا وسوريا والعراق).
كان نهر الفرات الطبيعي عنيداً جباراً مخيفاً، وحين تركبه موجات الجنون ويفيض منتصف الربيع، مع ذوبان الثلوج في مرتفعات منابعه التي لا يمكن تصورها، بامتلاء أودية سحيقة بالثلوج، وسط جبال عالية الارتفاع، إلا لمن يراها طائراً فوقها، ليعرف بعضاً من تكوينات الأنهار الكبرى، كان في جنون فيضانه لا يبقي ولا يذر، ويتحول ككثير من الكائنات الحية في مراحل تخصيبها إلى وحش فتاك، وطاغية، لا يكتفي مثل كل متوحش بإشباع غريزته الجوعى على قدر حجمه، بل يهدر بأصوات مرعبة مثل أعتى الوحوش، ويزيدها بفيض لا كزبدٍ يخرج من أشداق فحسب، بل بتيارات جارفة لا تبالي بما جرفت وكأن الماء الرقيق والرقراق يحاول أن يقول حتى للصخر إنه أقوى، ويقول للوحش إنه أفتك، وإن بعضه فقط أو مئات أمتار من طوله وعرضه وعمقه، تغدو أكبر من آلاف الوحوش والضواري، حجماً وفتكاً إن غضب وثار، وحينها بفورات جنونه وعربداته لا يستثني من توحشه زرعاً ولا ضرعاً، ولا إنساناً من مجاوري شطآنه ممن كانوا وديعين في تعاطيهم مع جبروته حين يرق ويعطي الأمان والحياة، الحياة التي من مائه مبعثها، لكن فيها كل مخاطر الموت إغراقاً. ذلك ما كانه الفرات النهر وإن كان يومها، لا الآن، ليس في قوائم عشرينية لأشد أنهار العالم غزارة، لكنه في منطقته أول، وعلى امتداد الساحة العربية والشرق أوسطية، ومحيطهما، هو الثاني بعد النيل واهب الحياة.
تم اعتماد شركات ألمانية (غربية حينها) باتفاق مع الحكومة الألمانية وبدأت أعمال الدراسات الميدانية والمسح الطبوغرافي والسبر الجيولوجي لكل المنطقة من نقطة دخول الفرات إلى سوريا عند مدينة جرابلس وحتى مدينة الرقة
التفكير بإنشاء سد على نهر الفرات في سوريا بدأ بعد الاستقلال خلال المرحلة الثانية لرئاسة شكري، وحكومة خالد العظم أواسط الخمسينيات من القرن العشرين، وتم اختيار موقع ناحية (الطبقة) ليكون مكاناً لجسم السد وعنفاته، كونه المكان الأنسب نتيجة تضاريسه القادرة على احتواء بحيرة أكبر وأعمق ستتشكل خلفه لتتم الإفادة منها في استصلاح أكثر من نصف مليون هكتار من الأراضي وتأمين المياه اللازمة لها بانتظام على مدار العام، ومن ثم توليد طاقة كهربائية من تدفق مياه البحيرة المرتفعة إلى المنسوب المنخفض عبر ثماني عنفات تولد ما يفيض عن حاجة سوريا للكهرباء وتصدير الطاقة إلى لبنان والأردن. تم اعتماد شركات ألمانية (غربية حينها) باتفاق مع الحكومة الألمانية وبدأت أعمال الدراسات الميدانية والمسح الطبوغرافي والسبر الجيولوجي لكل المنطقة من نقطة دخول الفرات إلى سوريا عند مدينة جرابلس وحتى مدينة الرقة (لم تكن قد أحدثت محافظة)، وقد تسنى لنا الاطلاع على بعض تلك الخرائط المحفوظة في أرشيف السد التي لم تترك شاردة أو واردة إلا ولحظتها عن مناسيب الارتفاعات عن التلال والمنخفضات ونقاط الغمر والبروز وطبيعة التربة في كل بقعة، بل ولحظت أماكن تموضع كل بئر أو (جب) واسم صاحبه.
توقف المشروع على الرغم من الاتفاقات الموقعة خلال مرحلة الوحدة مع مصر (1958 - 1961) حيث تركزت كل جهود حكومة الوحدة على مشروع السد العالي في مصر بقضيته الشهيرة والبحث عن تمويل له انتهى إلى قيام اتفاق مع الاتحاد السوفييتي لتمويله بقروض ميسرة والإشراف على تنفيذه. بعد الانفصال عاد ملف مشروع سد الفرات إلى التفعيل مع الحكومة الألمانية بموجب الاتفاق السابق، ودخلت فرنسا شريكة في المشروع بنسبة أقل، لكن التغيير السياسي بوصول البعث إلى السلطة نسف الاتفاقات السابقة وحذا حذو مصر بالاعتماد على الاتحاد السوفييتي ليبدأ التنفيذ العملي مطلع العام (1968) بمئات الخبرات السوفييتية وقليل من دول أخرى، حيث شهدت المنطقة تحولاً جذرياً في مختلف مناحي الحياة لتغدو من أكثر المناطق حيوية عبر استقدام آلاف من العمال والخبرات الوطنية في جميع الاختصاصات للعمل في أكبر مشروع في تاريخ سوريا منذ إحداثها دولة، بل وقبل ذلك بقرون، ولتنشأ مدينة عمالية جديدة استوعبت عشرات الآلاف من العاملين وأسرهم من مختلف المنابت في كل الجغرافية السورية وحواضرها، ولتكون تجربة اجتماعية واقتصادية وحياتية جديدة غنية بالتفاصيل وجديرة بالبحث الذي ما زال قاصراً على الرغم من أثر له، وبعض الأعمال الأدبية والفنية التي حاولت الإضاءة على بعض جوانب التجربة وآثارها المتعددة.
تسلم الأسد السلطة نهاية العام (1970) عبر انقلابه على آخر قادته في (اللجنة العسكرية) فيما أسماه بالحركة التصحيحية ليتفرد بحكم دكتاتوري. وفيما كانت ملامح السد باتت واضحة المعالم خلال سنتين مضتا من عمل دؤوب متصل ليلاً ونهاراً على مدار الساعة وعبر ورديات ثلاث متناوبة، وفيما كانت مباني المدينة الجديدة قد باتت جاهزة وتم الإسكان فيها، عمل حافظ الأسد على محو كل أثر لسابقيه في الإنجاز، بل وتمت إزالة اللوائح الرخامية التي توثق التاريخ لكل مرحلة كونها تتضمن أسماء رئيس أو رئيس وزراء سابق قام بوضع ما يعرف بـ (حجر الأساس) في محاولة من الأسد لسرقة كل إنجاز سابق لعهده ونسبته إليه، غير عابئ بالذاكرة الحية لشهود المراحل.
ما حاول الأسد فعله بدكتاتوريته، وإن نجح في فرضه ترهيباً من خلال منظومته الأمنية على مواطني بلد اغتصب حكمه، جاء الرد مصادفة عليه عبر قوى الطبيعة، ومن أكبر في تلك المنطقة من قوة الفرات العنيد.
الذي حدث حينها أن كل المتفجرات المهولة لم تفعل سوى أن رفعت آلاف الأطنان من التراب في الهواء لتعود بعد لحظات مكانها دون أن تفتح ثغرة باتجاه المجرى الجديد
يومها، وقبل خمسين عاماً بالتمام، في الخامس من تموز 1973، كان الاحتفال قد أعد بعد تحضيرات لأشهر لمجيء حافظ الأسد، وقيامه بتدشين أهم مرحلة مفصلية في المشروع والمتمثلة بتغيير مجرى النهر من مساره الطبيعي إلى مسار جديد مجاور باتجاه بوابات السد لتبدأ مرحلة تشكل البحيرة باحتجاز ماء النهر ريثما يبلغ الارتفاع منسوباً أعلى بستين متراً ويصير قادراً على توليد الكهرباء بإسقاط شلالات الماء على العنفات. أشيدت قبل أشهر منصة مسقوفة في الهواء الطلق، بمدرج يتسع لآلاف، ذات إطلالة مميزة على جسم السد وبحيرته ومحطته الكهربائية (ما زالت موجودة) وتم تجهيز حجر الأساس المنقوش على رخامه اسم حافظ الأسد، ووضِعت لوحة التحكم بجهاز التفجير في زاوية مكشوفة ليقوم الأسد أمام الحشود وأجهزة التصوير بالضغط على (زر التفجير) في لحظة تحول تاريخي. لكن الذي حدث حينها أن كل المتفجرات المهولة لم تفعل سوى أن رفعت آلاف الأطنان من التراب في الهواء لتعود بعد لحظات مكانها دون أن تفتح ثغرة باتجاه المجرى الجديد، فيما النهر يمضي في مساره الطبيعي غير عابئ بغضبة الأسد ولا ذهول من أعدّوا حفل التدشين.
يومها تمت إذاعة خبر قيام الأسد بتحويل مجرى النهر عبر وسائل إعلامه، لكن الصور، والتلفزيونية منها على وجه الخصوص والتوثيق على أشرطة سينمائية، لم يتم إلا بعد يومين وبعد جهود مضنية ومكثفة للعاملين والمهندسين والخبراء باستخدام الجرافات وآليات الحفر والنقل لفتح الثغرة وتحويل المجرى، وتصويرها ثم إعادة (المونتاج) وكأنها حصلت بحضور الأسد، في تزييف لوثيقة تحويل مجرى نهر الفرات بحضور حافظ الأسد. لكن الحقيقة التي شهدها آلاف، وبقيت لسنين تروى همزاً ولمزاً، أن الفرات العنيد رفض تحويل مجراه على يد حافظ الأسد الذي أراد نسبة أضخم مشروع في تاريخ سوريا لنفسه، ولم يستجب النهر إلا للأيادي التي عملت فيه سنيناً.